الرئيسة \  واحة اللقاء  \  كواليس التدخل السوري في لبنان 

كواليس التدخل السوري في لبنان 

23.02.2021
حسام جزماتي



سوريا تي في 
الاثنين 22/2/2021 
لا يعِد الصحافي اللبناني قراء كتابه بأنه سيقدّم لهم معظم ممارسات كبار الضباط السوريين في بلاده، فتلك مهمة تحتاج إلى كتب عديدة. حتى في الإهداء الذي يوجّهه لكل الذين تضرروا "من احتلال آل الأسد" يتابع بالقول: "نهدي بعض ما يعرفونه". من جهة ثانية يوضح حسن صبرا، في المقدمة، أنه لا يملك تفسيراً لارتكابات الأسرة الحاكمة وضباطها، في سوريا ولبنان، سوى إحالتهم إلى أطباء نفسيين ليشرحوا لماذا كان هؤلاء على هذا القدر من السادية والسعار للسلطة والمال. 
ورغم هذين الاحترازين فإن رئيس تحرير مجلة "الشراع" المعروفة يصحبنا في جولة شائقة من حكايا هيمنة السلطة السورية على لبنان، ويروي قصصاً كانت حبيسة التداول الشفوي همساً في الصالونات ومقاهي النخب، عن جشع أذرع الحكم السوري للنهب والخوّات والنساء والإذلال والقتل والخطف، وعن شركائهم اللبنانيين الذين كانوا مستعدين لبيع كراماتهم وعقولهم وخدماتهم لأجل وزارة أو نيابة أو إدارة أو تجارة أو وجاهة. وعلى مدى 370 صفحة يسرد صاحب "لعنتا لبنان" قصصاً يصعب التأكد من كثير منها، وربما اختلط، في بعضها، الواقع بالمبالغات. لكن المؤكد هو السلطة العليا للضابطين اللذين احتلا غلاف الكتاب، غازي كنعان ورستم غزالي، على سياسة بلد مجاور وتحكمهما فيه. 
طيلة عقود لم يُرفع فوق عنجر علم لبنان، لم يجلس فيها رئيس، لم يحرسها جندي لبناني. ورغم ذلك توافد إليها كل السياسيين اللبنانيين، إلا ما ندر، والقضاة، والضباط، والإعلاميون، في زيارات غير رسمية 
ففي بلدة عنجر، التي تبعد كيلومترات قليلة عن الحدود بين البلدين، دفعت الحرب الأهلية أحد المالكين اللبنانيين إلى مغادرة فيلا صغيرة ستتخذها المخابرات العسكرية السورية مقراً لرئيس فرع الأمن والاستطلاع المختص بشؤون الدولة الشقيقة. وطيلة عقود لم يُرفع فوق عنجر علم لبنان، لم يجلس فيها رئيس، لم يحرسها جندي لبناني. ورغم ذلك توافد إليها كل السياسيين اللبنانيين، إلا ما ندر، والقضاة، والضباط، والإعلاميون، في زيارات غير رسمية لكنها أهم من زيارة القصر الجمهوري أو الحكومي. 
بخلاف التشريفات الرسمية اللبنانية كان حرّاس هذا المقر بملابس مدنية رثة بعض الأحيان، من دون أحذية أحياناً أخرى، مطلقين لحاهم الخفيفة، مدمنين تدخين التبغ، ساخرين شامتين حاقدين على ركاب السيارات الفارهة اللامعة الذين ينتظرون ساعات للقاء "معلّمهم"، حاملين الهدايا ذهباً أو نقداً أو سبحاً أو سجاداً وغيرها، حتى لو قوبلوا بالإهانة من أبو يعرب (كنعان) أو أبو عبدو (غزالي)، بعد سنوات أولى استلم فيها الفرع ضابط لم يشتهر كسلَفيه هو العميد محمد غانم. 
ولد غازي كنعان عام 1942 في قرية بحمرا بمحافظة اللاذقية. تخرّج في الكلية الحربية وعمل ضابطاً في الفرقة التاسعة حتى نُقل، بوساطة من عمه لدى علي دوبا، إلى شعبة المخابرات العسكرية التي كان يقودها الأخير، وعُيِّن، برتبة عقيد، رئيساً لفرع حمص منذ 1979 حتى نقله إلى لبنان 1983. وخلال تلك السنوات واجه كنعان تمرد الإسلاميين في المدينة بشراسة، وعمل على علونة مؤسساتها العسكرية وإداراتها المدنية، وحاول ذلك في تجاراتها وعقاراتها. 
أما عهد وصايته الطويل على لبنان فقد اتسم بتنظيم فرع الأمن والاستطلاع وتوسيعه وبناء قاعدة مخبرين وأنصار سياسيين للاحتلال السوري. ودعمته رئاسة شعبة المخابرات بالاستجابة لمطالبه بتوسيع كادره بثمانين ضابطاً جديداً وزعهم على الأقسام التي شملت كل لبنان، وضم كل منها مفارز. لم يكن كنعان موثوقاً لدى رئيسه القوي علي دوبا فقط، بل أيضاً لدى حافظ الأسد الذي جلس كنعان إلى جانبه طوال ساعتين قضاهما الرئيس في حفل زفاف عبير، ابنة أخيه جميل، ويعرب بن غازي. 
منذ وصول كنعان إلى لبنان، تسبقه سمعته الوحشية في حمص وبعض علاقات التجارة والتهريب مع منطقة البقاع-الهرمل المجاورة، سارع الطامعون إلى إهدائه أفخم أنواع السيارات. وهو ما استمر حتى امتلك أسطولاً من السيارات الحديثة كان يهدي منه للمسؤولين في دمشق ولعشيقاته وأزواجهن أو أشقائهن في بيروت. فقد كان يومه مقسماً إلى ساعات الصباح للإشراف على الشأن الأمني حتى بعد الظهر، ثم التفرغ للجانب "السياسي" باستقبال الوزراء والنواب وقيادات الأحزاب وغيرهم، وليل يمضيه بين أحضان النساء اللاتي كان يفضّل أن يكنّ ممن يلوذ بزواره السابقين من كبار الشخصيات. 
أما رستم غزالي، خليفة كنعان في رئاسة الفرع، ولبنان، منذ 2002، فمن مواليد قرفا بريف درعا عام 1953. تخرج في الكلية الحربية وخدم في الجيش السوري في لبنان منذ دخوله هناك. وفي عام 1990 وصل إلى ثاني أهم منصب في المخابرات العسكرية بلبنان وهو أمن بيروت؛ القسم الوحيد الذي يتم تعيين رئيسه من قيادة الجهاز في دمشق لا من مكتب كنعان. ويستطيع مخاطبة رئاسة الشعبة دون المرور بعنجر، مما قد يجعله مصدر خطر على كنعان. فضلاً عن أن من يقود هذا القسم يحمل وصفاً سياسياً هو "رئيس فريق المراقبين السوريين في بيروت"، ويتعامل رسمياً مع الدولة اللبنانية. 
ويضم القسم 20 مفرزة أحكمت قبضتها على العاصمة ومفاصلها الحيوية، تسلمها ضباط غير ثانويين اشتهرت أسماء بعضهم لاحقاً، وتراوحت علاقة غزالي بهم بين الشراكة وبين الاحتكاك والمنافسة على المكاسب. فكان المقدم جامع جامع رئيس مفرزة المدينة التي تولت تطويع الأحزاب والحركات السياسية. أما مفرزة مطار بيروت الدولي فقد تعاقب عليها عدد من الضباط الذين لم يستطع أحد منهم الحد من تحكم محسن سليمان، العقيد في القوات الخاصة، بالمطار الذين كانت تتم عبره عمليات إخراج المخدرات وإدخالها، وتهريب بضائع مستوردة لصالح تجار كبار، تمرّ عبر "الخط العسكري" دون أن يدفعوا رسوماً جمركية، وتمرير مطلوبين للقضاء، بتهم غير أمنية، ليتمكنوا من مغادرة البلاد، والحصول على رشى لقاء التغاضي عن التأشيرات المزورة، والتعرّف إلى الفنانين والفنانات وكبار الأثرياء الذين تأتي بهم طائرات خاصة ويتسمون بالكرم، ناهيك عن صحبة المضيفات، وتعيين الموظفين، ونقل حركة الهبوط والإقلاع من المدرج الغربي إلى الشرقي خلال ساعات نومه. 
أما مفرزة الحمراء فقد حوت المناطق التي تتبع لها أنشط المؤسسات التجارية والمصارف والسفارات ووكالات الأنباء والصحف والفنادق والملاهي والمستشفيات والجامعات. وكانت تضم الفوج 54 قوات خاصة بقيادة العميد جودت سعيد الذي أطلق على غزالي وصف "السنفور". فيما تولى المفرزة المقدم جهاد صافتلي، وهو ابن دورة غزالي. وكان رستم محكوماً بعقدة أن الضابط العلوي هو الأهم في حكم الأسد، وأراد أن يُظهر أنه أقوى رغم سنّيته، فبدأت الخلافات بين الاثنين وأخذ كل منهما يتربص بالآخر ويكتب عنه التقارير. 
يؤكد صبرا أنه لولا الاستجابة اللبنانية المطواعة، في الغالب، لما تمكن كنعان وغزالي من التسيّد 
في لقاء أجراه المؤلف مع رنا قليلات، المسؤولة في "بنك المدينة" الشهير، قالت إن غزالي أجبرهم، بالابتزاز، على دفع ما مجموعه 300 مليون دولار لأخويه ولآخرين من طرفه، أو بشراء السيارات والذهب والمجوهرات، وصولاً إلى إرسال زوجته وأولاده، قبيل كل عيد، لتتبضع لهم إحدى الموظفات من أفخر الماركات بفواتير يسددها البنك. 
من جهة أخرى يؤكد صبرا أنه لولا الاستجابة اللبنانية المطواعة، في الغالب، لما تمكن كنعان وغزالي من التسيّد. وفي فصل طويل عن الأدوات التي حكما بها لبنان يستعرض سيراً ذاتية ومهنية فاسدة لمخبرين وشركاء وأذرع وأبواق شديدي التنوع سياسياً وطائفياً. كاللواء جميل السيد؛ ضابط الاستخبارات العسكرية الشيعي الذي تولى مديرية الأمن العام وتم توقيفه بعد مقتل رئيس الحكومة رفيق الحريري. وعبد الرحيم مراد؛ النائب والوزير السنّي الذي استولى على الخزينة السرية لحزبه الناصري "الاتحاد الاشتراكي" التي دعمها الزعيم الليبي معمر القذافي، فأغدق منها المال النقدي الذي كان كنعان يطلبه صراحة ممن أنعم عليهم بالمناصب، له ولمن وراءه في دمشق الذين كان يسمّي منهم وزير الخارجية ثم نائب الرئيس عبد الحليم خدام، وعلي دوبا، وحصة للقصر الجمهوري، وأخرى "للدولة السورية" التي تنفق على جيشها في لبنان رغم ضعف اقتصادها. 
ومن هؤلاء أسعد حردان؛ الأرثوذكسي رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي. ووئام وهاب؛ البوق الدرزي رئيس حزب التوحيد العربي الذي أُنشئ بمال الحرس الثوري الإيراني. وإيلي حبيقة؛ الماروني القائد السابق للقوات اللبنانية. وكريم بقرادوني؛ عميد مسيحيّي المخابرات الجوية السورية في لبنان، الذي وصل إلى رئاسة حزب الكتائب. وعلي عيد؛ الزعيم العلوي لجبل محسن في طرابلس مؤسس الحزب العربي الديمقراطي المجهز عسكرياً. وجمعية المشاريع الخيرية الإسلامية (الأحباش) التي اخترقت الوسط السنّي البيروتي لصالح المخابرات والسياسة السوريتين. وسليمان طوني فرنجية؛ الذي يقول المؤلف إنه لم يكن من أدوات مخابرات الأسد بقدر ما كان يعدّ واحداً من أسرة حافظ وصديقاً لأولاده، ولا يخضع لتوجيهات كنعان. أما عن رستم فيروي فرنجية أنه عندما كان وزير داخلية لبنان، في آخر حكومة قبل اغتيال رفيق الحريري وما أعقبه من خروج القوات السورية من هناك، فإن 90% من اتصالات غزالي به كانت للتوسط لعاهرات؛ بمنح هذه رقم لوحة سيارة، وتلك رخصة زجاج داكن، وإخراج ثالثة من التوقيف لدى الشرطة.