الرئيسة \  مشاركات  \  كلمات بلون الثلج : ( من لا يَرحم لا يُرحم)

كلمات بلون الثلج : ( من لا يَرحم لا يُرحم)

09.06.2019
يحيى حاج يحيى




يوما بعد يوم تكشف الحضارة المادية عن زيفها ، و فقدانها لأهم شروط الاستمرار والبقاء ، بعد أن جردت أبناءها من المشاعر الإنسانية و أوهنت الروابط الاجتماعية ، و جعلت المادة و الربح و الخسارة مقاييسها [ فقد جاء في تحقيق استغرق ست سنوات قامت به لجنة فرعية بمجلس النواب الأمريكي ، أن أكثر من مليون مسن ومسنة تتجاوز أعمارهم الخامسة و الستين يتعرضون لإساءات خطيرة! !فيضربون ويعذبون عذابا جسديا و نفسيا ، و تسرق أموالهم من قبل أهلهم ؟!
كما أن هذه الإساءات ليست مقتصرة على طبقة اجتماعية معينة ، بل تحدث في كل طبقات المجتمع الغنية و الفقيرة على حد سواء ، و في المدن الكبيرة و الصغيرة و القرى !].
و من المدهش حقا أن هذه الإساءات لها جذور عميقة في تلك المجتمعات فالذي يساء إليهم – اليوم – لم يكونوا أحسن معاملة لغيرهم! تقول الدكتورة (سوزان ستايمنتر)أستاذة الدراسات الفردية و العائلية بجامعة (ديلاوير) : [ اعتدنا طوال تاريخنا على الإساءة للمسنين ، ويمكن للمرء أن يجد حالات كثيرة في سجلات المحاكم في القرنين السابع عشر و الثامن عشر . إننا نميل للعنف البدني ، و قد أصبح هذا جزءا ثابتا من طبيعة عائلات كثيرة تسيء بالعنف للمسنين و الأطفال].
و يقول ربنا عز وجل في كتابه الحكيم ، دالا و مربيا و مرشدا (و قضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه و بالوالدين إحسانا ، إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما ، فلا تقل لهما أف و لا تنهرهما ، و قل لهما قولا كريما ، و اخفض لهما جناح الذل من الرحمة ، و قل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ).
و قال عليه الصلاة و السلام فيما رواه الإمام مسلم : رغم أنف ، ثم رغم أنف ، ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر ، أحدهما أو كليهما ، ولم يدخل الجنة ). و هذا الإحسان إليهما في حياتهما ، و هو إحسان لا ينقطع بموتهما ، فقد روى أبو داود أن رجلا من بني سلمة قال : يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ فقال : (نعم ، الصلاة عليهما ، و الاستغفار لهما ، و إنفاذ عهدهما من بعدهما ، و صلة الرحم التي لا توصل إلا بهما ،  وإكرام صديقهما ) ، وهو إحسان يتعدى إلى كل من تقد مت به السن فقد رغب رسول الله  صلى الله عليه وسلم – الشباب بإكرام الشيوخ و أنهم سيلقون في شيخوختهم من يكرمهم ، جزاء لما قدموه في شبابهم !! و هذه الرحمة تتجاوز الطاعنين من المسلمين لتشمل كل من أقعده العجز و بلغ الشيخوخة ، فقد رأى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في السوق شيخا كبيرا يسأل الصدقة فقال له : ما أنت يا شيخ ؟ قال أنا شيخ كبير ، أسأل الجزية و النفقة و كان يهوديا من سكان المدينة . فقال عمر : ما أنصفناك ، يا شيخ . أخذنا منك الجزية شابا ، ثم ضيعناك شيخا ! فمضى به إلى بيته ليعطيه طعاما ، ثم أرسل إلى خازن بيت المال يقول: افرض لهذا و أمثاله ما يغنيه ، و يغني عياله !..
في حضارة الإسلام لا تشمل الرحمة الأقارب فحسب ، و لكنها تشمل الأبعدين أيضا ، و تعم حتى المخالفين في الدين ، لأنها حضارة تحترم إنسانية الإنسان .
وفي حضارة الزيف و الطين جفت ينابيع الرحمة ، فلم تعد القسوة مقتصرة على المخالفين في الدين فحسب ، و لا على الأبعدين فحسب . و لكنها امتدت لتشمل الأبوين و الأقربين ، و هم في سن أكثر ما يكونون حاجة إلى الرحمة ! و شتان ما بين حضارتين !!