الرئيسة \  واحة اللقاء  \  كارثة بيروت: تحقيق محلي أم دولي؟ 

كارثة بيروت: تحقيق محلي أم دولي؟ 

10.08.2020
عبد الحميد صيام



القدس العربي 
الاحد 9/8/2020 
بعد الانفجار المروع في ميناء بيروت يوم الثلاثاء أعلن كل من الرئيس اللبناني ميشيل عون، ورئيس الوزراء، حسان دياب، عن عزمهما تشكيل لجنة تحقيق فورية للوقوف على أسباب الانفجار خلال خمسة أيام. وأطلق كل من الرئيسين وعودا قاطعة مانعة بأن التحقيق سيكون سريعا وشفافا وستتم محاسبة المسؤولين وأن الحساب سيكون عسيرا
وفي الوقت نفسه أطلقت دعوات من عدد من الساسة اللبنانيين، من بينهم أربعة رؤساء وزراء سابقون، بإجراء تحقيق دولي تشرف عليه الأمم المتحدة لا يخضع للتأثيرات والتدخلات الطائفية اللبنانبة ولا الضغوطات الإقليمية والدولية. كما دعت منظمة “هيومن رايتس ووتش” السلطات اللبنانية إلى دعوة خبراء دوليين لإجراء تحقيق مستقل في الانفجار. وأعربت المنظمة المعنية بحقوق الإنسان عن قلقها الشديد بشأن قدرة القضاء اللبناني على إجراء تحقيق موثوق وشفاف. وأضافت أنها ومنظمات حقوقية لبنانية ودولية وثّقت على مدى سنين التدخلات السياسية في القضاء اللبناني
فكيف سيخرج لبنان المنقسم على نفسه والمنهك والمتعب والمجروح من هذه الأزمة، وهل ستمر هذه الكارثة دون تحديد المسؤوليات كما حدث من قبل في كافة الاغتيالات والتفجيرات السابقة؟ وما هو السبيل الأسلم للتحقيق في كارثة بهذا الحجم، التحقيق المحلي أم الدولي؟ إن زلزال يوم الثلاثاء يجب ألا يمر بدون تحقيق شامل وعاجل وشفاف ومهني وحيادي بحيث يخرج بنتائج صارمة وتوجيه اتهامات واضحة سواء كان التحقيق محليا أم دوليا. وسأحاول استجلاء الأسلوبين
التحقيق المحلي ومثالبه 
في وضع مثل لبنان لا يمكن للتحقيق المحلي أن يكون شفافا ومحايدا ومهنيا وقادرا على أن يصل إلى نتائج حاسمة وصادقة بغض النظر عن العواقب، لأن أعضاء لجنة التحقيق سيأتون من تركيبات لبنان القائمة حاليا وكل واحد منهم سيخضع طوعا أو كرها لموقف جماعته الطائفية أو الحزبية. ولو شذ أحد المحققين وأراد أن يؤدي دروه بأمانة فقد يتم اغتياله في ظروف غامضة ويسجل ضد مجهول كما حدث مرارا في حالات مشابهة. والخوف أن تمارس الطبقة السياسية إياها الضغط على أعضاء فريق التحقيق أو تهديدهم أو عدم التعاون معهم فتخرج النتائج مشوهة وناقصة وغير حاسمة. والتجربة اللبنانية في هذا المجال غنية جدا وهنا عينة منها
لقد تم اغتيال العديد من الشخصيات من الصحافيين والسياسيين والناشطين وزعماء الأحزاب والطوائف ولم نشهد ولو مرة واحدة تحقيقا محليا شاملا توصل إلى نتائج حاسمة. ولنتذكر سلسة الاغتيالات التي جرفت في طريقها الصحافي سمير القصير، والأمين العام السابق للحزب الشيوعي اللبناني جورج حاوي، ورئيس تحرير جريدة النهار جبران تويني، والسياسي بيير أمين جميل، والقائد في تيار المستقبل وليد عيدو الذي اغتيل مع ابنه خالد، والعميد وسام حسن، مسؤول شعبة المعلومات في مديرية الأمن الداخلي والذي كشف مجموعة من خلايا التجسس لإسرائيل، وعندما ضبط ميشيل سماحة متلبسا بتلقي مساعدات مالية وأسلحة سورية تم اغتياله بتفجير سيارة مفخخة في الأشرفية عام 2012 والعميد فرنسوا الحاج، وغيرهم. هذا عدا الاغتيالات العديدة أثناء السيطرة السورية على لبنان التي شملت رئيس الجمهورية رينيه معوض ورئيس الوزراء رشيد كرامي الذي اغتيل عام 1987 بتفجير طائرته العمودية وأدين في العملية سمير جعجع الذي حكم بالإعدام لكن أطلق سراحه عام 2005 وأصبح من زعماء لبنان ونافس ميشيل عون على رئاسة الجمهورية. كما اغتيل قادة وطنيون مثل كمال جنبلاط وسماحة مفتي الجمهورية حسن خالد الذي فجرت سيارته في وضح النهار أثناء مغادرته دار الفتوى عام 1989.  الغالبية الساحقة من هذه الاغتيالات قيدت ضد مجهول مع أن العديد منها تكاد تشير إلى الجاني
من جهة أخرى فإن الظروف الحالية التي يمر بها لبنان سواء الاقتصادية أو المالية أو الأمنية، لا تساعد على قيام أي لجنة تحقيق بعمل مستقل متكامل. إن نقطة البداية في تحقيق داخلي مستقل تبدأ بوضع المسؤولين السياسيين بمن فيهم كل أعضاء الحكومة جميعا تحت تصرف لجنة التحقيق المستقلة كما يحدث في الدول الأخرى التي تكون فيها السيادة للقانون. أما في لبنان فلا نتوقع ذلك. هل هناك قدرة للجنة التحقيق على إحضار أي مسؤول مثل رئيس الدولة ميشيل عون أو رئيس البرلمان نبيه بري، أو رؤساء الأحزاب بمن فيهم رئيس حزب الله الأقوى في للبنان؟ أم أن الأمر سينتهي بتسوية الأمور والقبول بإدانة موظفين صغار مثل حراس منطقة الميناء وموظفي الجمارك وبعض مسؤولي الشحن والتفريغ في الميناء ثم يتم إنزال عقوبات صارمة بحقهم مشفوعة بحملة إعلامية تبرئ ساحة القيادات الكبرى وكفى الله المؤمنين شر القتال.  ولنفرض أن هناك دورا لإسرائيل خاصة في ما يتم تعميمه حاليا من نشاط طيران فوق المنطقة قبل دقائق من الانفجار، كما يؤكد اللبنانيون، ويوزعون أشرطة لنشاط جوي فوق المنطقة. فكيف سيتم التعامل مع الجانب الإسرائيلي في التحقيق وكيف سيتم التحقق من دور إسرائيل في الانفجار؟ 
لذلك لا أعتقد أن الشارع اللبناني سيرضى بالتحقيق المحلي ومن المتوقع أن يرفض هذا الشارع الملتهب أي نتائج رخوة غير قاطعة
مخاطر التحقيق الدولي 
 يبدأ التحقيق الدولي بطلب رسمي تقدمة الحكومة اللبنانية إلى الأمين العام للأمم المتحدة الذي يحيله إلى دائرة الشؤون القانونية للبت في قانونية الطلب كما حدث في حالة الحريري. ويمكن للبنان أيضا التوجه مباشرة لمجلس الأمن الدولي لاستصدار قرار لإنشاء فريق تحقيق دولي مستقل يحدد له المجلس مرجعيته ومدة عمله لإنجاز التقرير ثم يطلب من الأمين العام تنفيذ القرار. نعتقد أن التعاطف الدولي العارم مع لبنان في هذه الأيام يمكن بسهولة أن يترجم في مجلس الأمن إلى قرار لإنشاء فريق التحقيق. لكن القصة لا تنتهي هنا
فمن أسوا مثالب التحقيق الدولي الوقت الطويل الذي يستغرقه وهو ما لا يقبل به اللبنانيون حاليا الذين يبحثون عن إجابات سريعة حول مسؤولية تخزين هذه الكمية الضخمة من المواد المتفجرة لمدة تزيد عن ست سنوات. فالتحقيق في مقتل الحريري بدأ عام 2005 ومر في عدة مراحل وعقبات ولم يحسم الأمر وكانت المحكمة الجنائية الخاصة على وشك أن تعلن النتائج يوم الجمعة إلا أن الانفجار أدى إلى تأجيل الإعلان
هناك تحقيقات دولية استمرت سنوات من دون أن تتوصل لنتائج حاسمة مثل التحقيق في مقتل الأمين العام للأمم المتحدة الأسبق داغ همرشولد. ولغاية الآن لم يحسم التحقيق بشكل مطلق من كان وراء إسقاط طائرة همرشولد في الكونغو عام 1961. والشيء نفسه يقال عن التحقيق في انفجار شرنوبل أو في مجازر رواندا. لكن هناك تحقيقات دولية مهمة حسمت النتائج لكن بعد أن أخذت وقتها الكافي مثل تقرير ديزموند توتو في الهجوم الإسرائيلي على بيت حانون عام 2006 وتحقيق غولدستون في الحرب على غزة عام 2008/2009 وتحقيق وليام شاباس في حرب 2014 والتحقيق في استخدام الأسلحة الكيميائية في سوريا وفي جرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة وليبيريا ورواندا وغيرها الكثير. فقط حبال الأمم المتحدة طويلة. لقد كلفت المحكمة الجنائية الدولية المعنية بلبنان التي إنشئت عام 2007 لغاية الآن 600 مليون دولار ساهم لبنان بجزء من هذه التكاليف
لبنان الآن يقف بين خيارين كلاهما سيء: التحقيق المحلي الذي لن يخرج عنه شيء حاسم وهو يصب لصالح الطبقة السياسية التي هي مسؤولة أصلا عن دمار لبنان وخرابه وتجريف أمواله وارتهانه للخارج، أو التحقيق الدولي الطويل الذي قد يكشف الحقائق ولو بعد حين لكنه قد يهدئ من روعة اللبنانيين ويوحدهم أكثر خلف فريق تحقيق دولي مستقل بعد أن فقد الشعب اللبناني ثقته في كل المسؤولين اللبنانيين ورفع شعاره الشهير منذ أطلق الحراك: “كلن يعني كلن”.