الرئيسة \  تقارير  \  قمة "الناتو" والسؤال الأصعب على أميركا

قمة "الناتو" والسؤال الأصعب على أميركا

02.07.2022
جورج عيسى


النهار العربي
جورج عيسى
الخميس 30/6/2022
أعادت حرب أوكرانيا تنشيط حلف شمال الأطلسي. لكن للنشاط المستجدّ تحدّياته إن لم يكن أكلافه أيضاً. اجتماع الحلف اليوم في مدريد هو الأهم منذ عقود. على أجندته، إلى جانب إعادة تأكيد الدعم العسكري والمالي لأوكرانيا، مواصلة تذليل العقبات أمام انضمام فنلندا والسويد إلى صفوفه والبحث في حماية جناحه الشرقي من أيّ تصعيد روسيّ آخر.
الفيتو التركيّ على طريق الحلّ
فاجأت تركيا شركاءها الأطلسيين في أيار (مايو) حين أعلنت على لسان رئيسها رجب طيب أردوغان أنّها لا تنظر إلى حصول فنلندا والسويد على العضوية الأطلسية بإيجابية. كان لأنقرة مأخذان مباشران على الدولتين: الحظر العسكري الذي فرضتاه عليها بعد توغّلها في شمال شرقي سوريا سنة 2019 والدعم الذي تقدّمانه لمعارضين أكراد داخل أراضيهما تصنّفهم تركيا على لائحة الإرهاب. أمكن أيضاً التفكير بأوراق خفية أخرى يحملها الأتراك: رفع العقوبات الأميركية عن بلادهم بسبب شراء منظومة "أس-400" الروسية وتعزيز موقعهم التفاوضيّ مع الروس في عدد من نقاط الاشتباك والتعاون الأمنية والتجارية.
وبالطبع هنالك المسألة شبه الاعتيادية في رفع حدّة الخطاب التركي في السياسة الخارجية، لإظهار أنّ أنقرة لاعب وازن على الصعيدين الإقليميّ والدوليّ. وجهدُ التذكير هذا قد يفيد الرئيس التركي قبل الانتخابات الرئاسية السنة المقبلة. في جميع الأحوال، يبدو أنّ المسألة حلّت أمس بعدما قال الأمين العام لحلف "الناتو" ينس ستولتنبرغ إنّه تمّ التوصل إلى اتفاق يفتح الباب أمام دخول فنلندا والسويد حلف شمال الأطلسي، ويستجيب "لمخاوف تركيا حول صادرات الأسلحة ومكافحة الإرهاب". جاء الإعلان بعد محادثات استمرت لساعات بين أردوغان ونظيره الفنلندي ورئيسة الوزراء السويدية بمشاركة ستولتنبرغ كوسيط. ستكشف الأيام المقبلة ما الذي يمكن أن يكون أردوغان قد حصل عليه مقابل رفع اعتراضه على طلب العضوية. في غضون ذلك، عادت الكرة الآن إلى ملعب "الناتو" ليحصّن جناحه الشرقيّ ويعيد تعزيز أمن أوروبا. سيفرض هذا الهدف العبء الأكبر على الحلف الأطلسي، وبشكل أكثر بداهة على الولايات المتحدة نفسها.
 واحد من أسرع التعزيزات العسكرية
بات لدى الأميركيين اليوم قرابة 100 ألف جندي في أوروبا. على الرغم من ضخامة هذا الرقم، ثمّة جانب آخر استوقف البعض في هذا البناء العسكريّ. لقد زادت الولايات المتحدة عديدها بحوالي 30 في المئة خلال أربعة أشهر وحسب بعدما كانت أوروبا تستضيف قرابة 65 ألف جندي أميركي حتى أواسط شباط (فبراير) الماضي. لقد كان ذلك إحدى أسرع عمليات البناء العسكري منذ نهاية الحرب الباردة بحسب صحيفة "الواشنطن تايمز". ومن المتوقع أن تقوم أميركا اليوم بـ"إعلانات محددة" عن "تعهدات عسكرية جديدة طويلة الأمد على الأرض وفي البحر والجو" خصوصاً في شرق القارة بحسب تصريح مستشار الرئيس الأميركي لشؤون الأمن القومي جيك سوليفان.
جاء هذا التصريح عقب إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنّ بلاده ستسلّم بيلاروسيا في الأشهر المقبلة صواريخ قادرة على نقل رؤوس نووية. لكنّ تصريح سوليفان عن التزام عسكريّ طويل الأمد يثير تساؤلات عن قدرة الولايات المتحدة في الحفاظ على توازن توزيع الموارد بين أوروبا وشرق آسيا. من جهة، لا تزال واشنطن ترى في الصين التهديد الاستراتيجي الأول بالنسبة إليها، ومن جهة أخرى، ليس بإمكانها الرهان على قدرة الأوروبيين بالدفاع عن أنفسهم. لا يزال هؤلاء يعتمدون بالكامل على الولايات المتحدة في أمنهم حتى ولو أعلنت غالبية دولهم زيادة الإنفاق الدفاعيّ بعد حرب أوكرانيا. قبل انعقاد القمّة في مدريد، حذّرت دول البلطيق من أنّها قد "تمحى عن الخريطة" بفعل هجوم روسيّ قبل أن يتمكّن التحالف من شنّ هجوم مضاد لتحرير هذه الدول.
"فكرة سيئة"... وبديل غير متاح؟
عدم تمكن أوروبا من الاعتماد على نفسها في الدفاع عن حدودها في السنوات المقبلة سيقيّد الولايات المتحدة في تحرّكها نحو الشرق. أعلن ستولتنبرغ أنّ وثيقة "التصور الاستراتيجي" التي أصدرها الحلف مؤخراً ستحوّل وضعيّة "الناتو" من الردع إلى الدفاع الكامل عن الدول المحاذية لروسيا. لا جدال في أنّ الولايات المتحدة ستمثّل الرافعة الأكبر لتنفيذ هذا التصوّر. في الوقت نفسه، حذّر الباحث في "معهد بروكينغز" مايكل أوهانلون من أنّ الولايات المتحدة وحلفاءها لا يملكون الإمكانات العسكرية والاقتصادية وحتى الديبلوماسية من أجل التصدّي للأزمات والنزاعات في أوروبا وآسيا في وقت واحد.
لكنّ البديل عن الاستثمار الأميركي في الأمن الأوروبي ليس مضموناً بحسب الأستاذ المتميّز في كلية الدراسات الدولية المتقدمة في جامعة جونز هوبكينز، هال براندز. بينما روّج البعض لعدم ضرورة وضع المزيد من القوات على الجناح الشرقي لـ"الناتو" إمّا بسبب تبيّن عدم كفاءة الجنود الروس في المرحلة الأولى من الحرب الأوكرانية أو بسبب الحاجة للموارد الأساسيّة في شرق آسيا، رأى براندز أنّ تخلّي أميركا عن المبادرة في أوروبا لأي سبب كان "فكرة سيئة". فنتيجة ذلك ستكون حلفاً أطلسياً أضعف، تمزّقه الخلافات بين دول المواجهة التي تخشى روسيا ودول أوروبا الغربية التي لا تزال تأمل بتسوية ديبلوماسية معها.
كيفيّة موازنة الولايات المتحدة لمصالحها بين آسيا وأوروبا هو السؤال الأصعب بالنسبة إلى أميركا في الوقت الراهن. الاستدارة نحو آسيا ستترك أوروبا مشتّتة والبقاء فيها قد يقوّض مصلحتها الأولى في الإندو-باسيفيك. لكن قبل الإجابة عن هذا السؤال، سيتحتّم على واشنطن أولاً رأب الصدع في التصوّرات الأوروبية تجاه التهديد الروسي للقارة العجوز. هذا الصدع الذي لا يحجبه سوى الحضور الأميركي نفسه على الأراضي الأوروبية والمظلّة الأمنيّة التي يوفّرها.