الرئيسة \  واحة اللقاء  \  "قلق" بوتين... ومصير الجولان

"قلق" بوتين... ومصير الجولان

19.06.2017
د. يحيى العريضي


الشرق الاوسط
الاحد 18/6/2017
اشتُهِر السيد بان كي مون، الأمين العام السابق للأمم المتحدة، بتعبيره عن "القلق" كلّما وردته معلومات عن مصيبة جديدة تحل بسوريا. وقد يتفهم المرء ردة الفعل هذه بحكم عدم امتلاك الرجل بوارج أو صواريخ أو طائرات؛ بل قوة أخلاقية ما عادت تغني أو تسمن في عالم ضاع فيه الحق، واستبيح الضعفاء. ولكن أن يكون هذا هو لسان حال فلاديمير بوتين رئيس القوة الأعظم الثانية في عالمنا، عندما يعبر عن قلقه تجاه ما قد تؤول إليه الأمور في سوريا - وهو "التقسيم" - فهذا ما يصعب استيعابه.
عندما يتحدث السيد بوتين في الاجتماعات الاقتصادية في سانت بطرسبرغ عن قلقه أو خشيته من الخطر المُحدق بسوريا، أي "التقسيم"، فهل يعني ذلك أنه يئسَ من السيطرة على مجمل سوريا كي يعيدها إلى "الحكومة الشرعية" التي دعته لمساعدتها في "دحر الإرهابيين" وتحرير كل شبر من "جرائمهم" وإعادته إلى "حضن الوطن الشرعي"؟! وعندما عهدت إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما سوريا إلى بوتين ووزير خارجيته لافروف، ألا يعني حديثه عن التقسيم أنه يثبّت على نفسه صفة "الفشل" - التي أطلقتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب الجديدة – في معالجة ما عُهِدَ إليه إنجازه؟!
بما أن السيد بوتين يمتلك اليد العليا في سوريا، وبيده إخراس آلة قتل النظام والميليشيات التي تحميه (بحكم حمايته عسكرياً وسياسياً) مَن ذا الذي منعه من تثبيت (وقف إطلاق النار) و(الهدنة) و(تخفيف العداوة) وأخيراً (تخفيض التوتر) في عموم سوريا، مع الجهات الفاعلة التي اتفق أو وقّع معها خلال السنتين الماضيتين، وإبقاء سوريا قطعة واحدة، لا أقساماً مبعثرة تقلقه الآن؟!
يبدو أن السيد بوتين "قلق" مما صنعت يداه. فهو إن كان يتغافل أو يتجاهل أو يستهبل السوريين والعالم، بأن حكومته كانت أول من استخدم مصطلح "سوريا المفيدة" علناً، بعدما اخترعته إيران لتنفيذ مخططها، وليخدم أغراض ومصالح روسيا بالمعية؛ فإن قلقه اصطناعي مفضوح. فـ"سوريا المفيدة" أول فكرة تقسيمية اشتغلت عليها طائراته. وهل من جانب آخر وصل الرجل إلى قناعة بأن عليه الاكتفاء بما يضمن مصالحه في "دولة" مَسخة ينصّب عليها مَسخاً يتشارك مع الملالي وحاجتهم لـ"الهلال الشيعي"؟!
ومؤخراً، مَن ذا الذي ابتدع فكرة "مناطق التهدئة" التي تحمل ملامح التقسيم وتيسير عملية "سوريا المفيدة" إلا "آستانة – بوتين"؟!
أوَليست خطة "مناطق التهدئة" الوصفة الأنجع للتقسيم الذي يقلق الرئيس الروسي؟!
أليست يده هي التي رسمت تلك الخطوط، أم أن إيران هي التي رسمت ذلك رغم إرادته، فاستشعر القلق؟!
في ثنايا تصريحه الأخير، يستمر السيد بوتين في وضع السوريين والعالم أمام خيارين أحلاهما مُر؛ خيارين يقعان في عالم التكتيك السياسي، لا في البحث عن حل حقيقي لسوريا. فهو، ولفترة لا بأس بها، خيّر السوريين بين "داعش" و"نظام الأسد". وبعد بدء تبخُّر "داعش" واندحارها مؤخرا، شرعت مشروعية هذه الثنائية في السقوط، ليصبح تسويقها صعباً. من هنا يأتي تهديده المبطن بالقلق حول التقسيم. فالسوريون والعالم الآن بحسب "قلق" بوتين... بين "التقسيم" و"نظام الأسد"، أو على الأقل "سوريا المفيدة".
واضح أنه لم يبق أمام بوتين إلا هذا التكتيك الابتزازي، كي يأخذ أجرته ويحل له العالم أزماته؛ بعد أن أخذ سوريا رهينة.
إن بعثرة سوريا رسمياً يشكّل كارثة أبدية للسوريين وغيرهم؛ وينذر بأن يكون المقدمة لبعثرة كيانات أخرى في جغرافيا هذه المنطقة الملتهبة. ولا يخفى على أحد أن المستفيد الأساسي من بعثرة سوريا هي إسرائيل. فهذا الأمر بالذات يسهّل عليها وييسّر ابتلاع جزءٍ أساسي من سوريا كانت قد احتلته عام 1967. فتلك الأقسام المبعثرة من سوريا لن يكون بمقدورها - والحال هكذا - أن تعمل أو حتى تطالب باستعادة الجولان إلى سوريا.
لا ندري إن كان السيد بوتين يعرف أن الولايات المتحدة، صديقة إسرائيل التاريخية، سعت لأن تجد حلاً لتلك المعضلة، فرعت عملية مفاوضات سلام بين سوريا "الموحدة" وإسرائيل لسنوات؛ وكانت النتيجة الفشل بسوريا موحدة - ولأسباب ليس هذا هو المكان لشرحها - فكيف يمكن النجاح بـ"سوريا مبعثرة"؟!
قلق السيد بوتين يعكس تلك الخدمة التاريخية التي يسديها لإسرائيل، متجاوزاً في خدماته ما قدّمته أميركا تاريخياً. إنه فعلياً يغلف ما فعله بـ"القلق" من باب تبرئة الذمة.
لم يكن امتداد نزف الدم السوري المستمر من فراغ. ولم يكن التدمير المنهجي والترحيل والتشريد والتطهير العرقي، ومنع السوريين من الدفاع عن أنفسهم وبعثرة وشلُّ معارضتهم، حالات عبثية. وما كان السكوت عن تدخل إيران وميليشياتها قضايا بلا تخطيط.
والأهم، من كل ما سبق، ما كان الدخول الروسي وتعهده الملف السوري ليحمي نظام الجريمة والتقسيم من دون تنسيق عالي المستوى. ها هي الغاية القصوى تتضح.
ليجعل السوريون من تصريح بوتين هذا الصوت الأقوى لناقوس خطر أصعب من كل ما مرّ بهم. ولتكن وحدة الأرض السورية، وعلى رأسها الجولان المحتل، الهدف الذي لا يغيب لحظة عن أفعالهم وأفكارهم ومواقفهم.
ليعلم من هم حول النظام أن مصيراً أسود ينتظرهم، وليعلم من هم على الضفة الأخرى أن المصير أكثر سواداً إن هم لم يرتقوا إلى مسؤولية الحفاظ على سوريا بأهلها واحدة موحدة ولكل أهلها.
وأخيراً، ليعلم العرب والمسلمون، أنهم إن لم يحتضنوا السوريين ويقفوا معهم؛ فإن مصيرهم ومصير جغرافيتهم لن تختلف. اللّهم قد بلغت.