الرئيسة \  واحة اللقاء  \  قصتي في المعتقل (دوبلير)

قصتي في المعتقل (دوبلير)

27.04.2019
إياس الرشيد


سوريا تي في
الخميس 25/4/2019
ثمة مثل تركي قديم يقول: (الكلب الملتجئ في ظل العربة يظن أن ظل العربة ظله)
والدوبلير: كومبارس يأتي به المخرج؛ ليقوم بأدوار خطيرة عوضاً عن البطل، مثل حركات القفز من شاهق، أو السباحة، أو مطاردات السيارت، وغير ذلك.
هذه القصة قديمة نوعاً ما. كنت في المرحلة الإعدادية، تحديداً في الصف الثامن، وحدث أن اعتدى مجموعة من المراهقين على صديق لنا؛ فأوسعوه ضرباً حتى تقرَّح جسده؛ فقمنا بتشكيل جناح عسكري للنيل من هؤلاء الأشقياء، وكنت أنا أصغر جندي في هذا التنظيم السري، أما الثلاثة الباقون فكان أحدهم في الثانوية العامة، واثنان في الصف الحادي عشر، والرقم أربعة في هذا التنظيم السري ليس مصادفة، لأن تنظيم
لما دخلنا عليهم بدأت المعركة، وكل واحد من تنظيمنا السري اشتبك مع قِرْنِهِ من التنظيم الآخر، وكان صنوي، الذي عليَّ الفتك به يقف بعيداً عني، وكان صبياً في مثل عمري
الأعداء أيضاً أربعة أشخاص، واختياري ضمن هذا التنظيم، لم يكن لأنني محترف في القتال، أو محمد علي كلاي، أو فاندام، بل لأن صبياً في كراديس الأعداء في مثل سني، وبقية جيشهم سنُّه مقارب لسنِّ جيشنا، وتم الاتفاق أن كل واحد منا سيتولى مهمة تأديب شخص واحد فقط، وهذا من أخلاق الفرسان.
انطلقنا نحو الهدف، وكان الفتية الأشقياء مجتمعين في مزرعة، فلما دخلنا عليهم بدأت المعركة، وكل واحد من تنظيمنا السري اشتبك مع قِرْنِهِ من التنظيم الآخر، وكان صنوي، الذي عليَّ الفتك به يقف بعيداً عني، وكان صبياً في مثل عمري، وعندما رأى الصبي الوطيس قد حمي مضى هارباً، وانطلقت خلفه مثل السهم، وأنا أدير في مخيلتي ماذا سأفعل به......
سأبدأ باللكمات على عينه اليسرى، ثم اليمنى، ثم سأقفز عالياً مثل المصارعين، وأدوس في بطنه..سأستخدم كوعي وأسدد ضربة مباشرة إلى أنفه كي يتحطم... ربما إذا أسعفني الوقت سأعضه من أذنه أيضاً، وعند الانتهاء من تأديبه سأضربه على مؤخرته بقدمي هذه...نعم.....نعم الضرب على المؤخرة مهم جداً في نهاية المعركة، لأنه يعطيك نشوة النصر، وتشعر بشكل حسي بكَمِّ الإذلال الذي حاق بخصمك.
كان الصبي يعدو كالسهم، وأنا أعدو خلفه، وأفكر بطريقة الانقضاض عليه، ولكن الفتى كان رشيقاً، وكانت المسافة تتسع بيننا، وهرب بعيداً، ولم أستطع القبض عليه.
عدت أدراجي إلى المزرعة؛ حيث المعركة الحقيقية الكبرى، فوجدت فريقنا قد أحدث جلداً عظيماً ورفساً منقطع النظير ولكماتٍ ليس لها إحصاء في فريق الأعداء، ثم غادرنا أرض المعركة، ونحن نشعر بالنشوة لهذا الانتصار، وكان حديث الشباب أثناء عودتنا عن تفاصيل المعركة والتأكيد على تفاصيل الضرب.
بعد أن انتهى الجميع من سرد ما فعلوا التفتوا إليَّ وقالوا: نخشى أن يكون الولد قد مات بين يديك!!! انتبه أوصيناك أن لا تضربه بحجر على رأسه، فقط لكمات على الوجه والبطن.
وبما أننا خرجنا من معركة والجميع يلهث، لم يكن من السهل تمييز انطباعات الصدق والكذب على الوجه، فانطلقت أشرح لهم المعركة كما تخيلتها، وزدت قليلاً حيث بدأ الصبي يبكي، ويتوسل إليَّ عندما قررت أن أضع رأسه على خلية نحل قريبة من ساحة المعركة كي تنال منه قرصاً، فتدخل الشباب الثلاثة، وقالوا هل وضعت رأسه فعلا!!؟؟،.. من المؤكد أنه تسمم الآن، وسيموت... كيف فعلت ذلك ؟؟!!!
أحسست أنني بالغت في الكذب،، يجب أن أتراجع......
لا لا يا أصدقائي وضعت رأسه للحظة واحدة فقط للتخويف والإذلال، ولم يكن النحل موجوداً أصلاً في الخلية...يبدو أنه ذهب في رحلة بحث عن الرحيق...
قال الأصدقاء بصوت واحد: الحمد.. لله....
منذ تلك اللحظة تحولت إلى بطل في عين الآخرين، ولكنني الوحيد من يعرف أن الصبي هرب بعيداً ولم يمسسه سوء.
لم تبق القضية في هذا السياق الرومانسي البطولي، فجأة ظهرت الشرطة، فقد ضرب صاحبُنا الكبير شقياً من الطرف الآخر، وأحدث إصابةً بالغة في أنفه، فكان لابد أن نلوذ بالفرار.
خلال يومين تدخل أهل الحل والعقد؛ لعقد مصالحة وتصفية القلوب وإنهاء الصراع، ولكن المسألة قد وصلت إلى المحكمة، فكان لابد أن نقف أمام القاضي لدقيقة واحدة لإغلاق المحضر.
افتضح أمري، بعد أن وصلت القضية إلى القضاء؛ فتمت الشكوى من ثلاثة فقط، أما أنا ليس لي اسم، لأنه لا يوجد ضحية أساساً.
كان من بين بنود الاتفاق مع الشرطة أن يودع الجناة في المخفر ليلةً واحدة، وفي الصباح يذهبون إلى المحكمة، وتنتهي القضية، وهنا بدأت دراما جديدة كنت أنا بطلها.
كان من بين ضحايا فريق الأشقياء، فتى طويل القامة ضخم البنية، وهو من تلقى ضربة على أنفه من كبير فريقنا، ولكنَّ كبيرَ فريقنا كان مقبلاً على امتحانات الثانوية العامة، وخشي أهله أن تتراجع الشرطة عن وعودها في إنهاء القضية، ويتم إيداعه في السجن، والامتحانات قريبة، فتم اختياري لأخذ مكانه وأدخل المعتقل عوضاً عنه، ثم أعرض على القاضي حاملاً اسمه وجريمته، فدخلت القضية بصفة دوبلير.
عصر يوم الاتفاق، ذهبنا ثلاثتُنا أنا وصاحباي أعضاء تنظيمنا السري مع جمهور من الأهل والأقرباء إلى مخفر الشرطة، وتم إيداعنا في سجن المخفر.
لقد كان السجن خالياً، وكنت سعيداً جداً؛ لأنني في المعتقل، أول شيء فعلته، حفرت اسمي على جدار السجن، وقد غمرتني نشوة عظيمة، ولكن هذه السعادة لم تدم طويلاً، فجأة فُتح باب الزنزانة، وتم إخراجي.
قلت في نفسي: الآن سيبدأ التعذيب، يجب علي أن أكون صبوراً.. رجلاً جباراً... يجب أن لا أعترف بأي شيء.. لقد وضعوا ثقتهم فيَّ.. يجب أن لا أنهار وأقول للسجان: أنا هنا عوضاً عن شخص آخر.. تذكرت عمار بن ياسر... وأمه سمية..... أحدٌ أحدٌ....أحدٌ أحدٌ.. سأبقى مصراً على موقفي.. ولن أعترف بأي شيء...كانت هذه الأفكار تطحن رأسي، وأنا أحفِّزُها على الصبر.. كانت أطول دقيقة في حياتي هي المسافة من الزنزانة إلى غرفة رئيس المخفر.
-أوصلني السجان إلى غرفة رئيس المخفر، وقال:
احترامي سيدي... هذا هو......
قال لي رئيس المخفر: عمو أنت ستخرج للعب جانب المخفر.. لا تذهب بعيداً.... لا نستطيع إبقاءك هنا، هذا غير قانوني، أنت صغير جداً.....
يا ابن الكلب أيها السجان.... يا ابن الكلب يا رئيس المخفر.. ألا يبدو علي أنني
أهم بند في قضيتنا هو قضية الصديق، الذي جئت دوبليراً مكانه، فهو من ضرب ذلك الشقي على أنفه، وهذا هو المستمسك الوحيد في قضيتنا...
اشتركت في معركة.. ألا يبدو شكلي مقنعاً ألبته!!
خلال ساعة واحدة وصلت سيارة أخذتني إلى بيتنا، وفي اليوم الثاني بدأت دراما جديدة...
صباحاً كنت  المخفر، وانطلقنا باتجاه المحكمة، وقد وضعوا في يدي الأساور الحديدية، كنت سعيداً جدا بهذه التجربة.. ما أجمل أن تصعد في سيارة الشرطة من الخلف وبجانبك شرطي وضع أساور الحديد في يديك..
-وصلنا المحكمة.... أهم بند في قضيتنا هو قضية الصديق، الذي جئت دوبليراً مكانه، فهو من ضرب ذلك الشقي على أنفه، وهذا هو المستمسك الوحيد في قضيتنا...
-دخلت إلى القاضي، وذكرت اسم صديقي، وبياناته..
-قال القاضي: ماذا حدث؟؟
-استغربت أين القرآن الذي سنحلف عليه؟؟!!، وأين المحامي بجلبابه وهو يقول: سيدي القاضي.. حضرات السادة المستشارين؟!..... لا يوجد أي شيء...ليست مشكلة.. المهم أنني في المحكمة، وهذا قاض، وهذا شرطي، وهذه أساور في يدي، وأنا متهم...
-أعاد القاضي سؤاله: احكِ لنا ماذا حدث.. وكيف ضربته؟
-قلت له: عمي القاضي:
كنت واقفا على الجدار، وهو يقف عند شجرة الزيتون قفزت عالياً.. وضربته بقدمي على بطنه، وعندما رفع رأسه من هول الصدمة والضربة، نطحته برأسي على جمجمته، ثم أمسكت بذراعه ولففتها حتى سمعت صوت تحطم العظام، ثم تركته، وعندما تركته وغادرت. مازالت فيه روح تتحرك، فأراد أن يضربني بعصا؛ في اللحظة الأخيرة التفت إليه، وقبل أن تصل العصا إلى رأسي ضربته بيدي على أنفه فتهشم..
-عندما بدأت المعركة بيننا وبين هؤلاء الأشقياء، لم أشاهد الثلاثة الآخرين وأتفحصهم، فقد عدوت خلف ذلك الشقي، ولم أعرف حجم الذي هُشِّم أنفُه..
-بعد لحظات تم إدخال الفتى المضروب والذي جئت أنا بتهمة ضربه، لقد كان بحجم الثور، وأطول مني بضعفين.
-نظر القاضي إليَّ، وهو يضحك وقال: أنت ضربت هذا؟!!
-في الحقيقة سقط شيء من أعضائي لم أعد أتذكر ما هو، وقلت للقاضي: ربما.. هذا...وربما  غيره... المعركة كانت كبيرة.. وأنا ضربت أكثر من واحد.