الرئيسة \  واحة اللقاء  \  قراءة في مشهد صراع الدول على سورية

قراءة في مشهد صراع الدول على سورية

03.04.2019
خالد المطلق


جيرون
الثلاثاء 2/4/2019
ما أشبه اليوم بالأمس! إذا ما عدنا في ذاكرتنا إلى المراحل التي مرت بها الثورة السورية الأولى، وإلى المرحلة التي تمر بها الثورة السورية اليوم، وأردنا أن نقارن بين الثورتين؛ وجدنا أن هناك قواسم مشتركة كثيرة بينهما، مع تبدل بعض اللاعبين وتطور أساليب الصراع السياسي والمسلح. فالثورة السورية الأولى التي انطلقت عام 1920 حاول الفرنسيون إطفاءها في نهاية العام السابع لانطلاقها، أي عام 1927، وقد ظنوا -أوّل وهلة- أنهم يستطيعون ذلك، لكن رياح التغيير الكبيرة التي حدثت في قواعد اللعبة اقتلعت سفينتهم، حيث تم انتخاب الجمعية التأسيسية لصياغة الدستور، وسيطرت قوى الثورة عليها، وتم وضع دستور ثان للدولة السورية، أقرّ تشكيل جمهورية نيابية عاصمتها دمشق، على الرغم من رفض المفوض السامي الفرنسي لبنود الدستور. وهنا بدأت مرحلة تشكيل الدولة السورية، وأُعلن تأسيس الجمهورية السورية عام 1932، ثم بدأت مرحلة الصراع السياسي إلى أن تحقق جلاء المستعمر الفرنسي عن كامل الأراضي السورية عام 1947، ودخلت سورية بعدها مرحلة الصراع على السلطة، بين المكونات السياسية والعسكرية، حتى استقر الأمر، عندما سيطر حزب البعث على السلطة عام 1963، ومن ثم بدأ الصراع بين أجنحة هذا الحزب، حتى أعلن حافظ الأسد قيام ما سمّي “الحركة التصحيحية” التي سيطر بموجبها على الحكم في سورية، عقودًا طويلة.
وإذا عدنا إلى المراحل التي مرت بها الثورة السورية منذ انطلاقتها عام 2011؛ وجدنا أن مراحلها تتشابه إلى حد بعيد -في كثير من الأحداث- مع مراحل الثورة السورية الأولى، إلى أن وصلت إلى هذه المرحلة التي تنطبق أحداثها مع أحداث عام 1927، إذ انحسرت العمليات العسكرية إلى حد بعيد، وسيطر الأسد وحلفاؤه على أغلب المناطق المحررة، وهذا لا يعني بالمطلق هزيمة الثورة وانتصار الأسد عليها، بالمقابل يواجه نظام الأسد كثيرًا من التحديات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية غير المسبوقة، وهذا كله يدل على دخول الجميع -نظامًا وثورة- مرحلة جديدة من مراحل الصراع التي يجب أن نتعامل معها، كثورة، بأدوات ووسائل مختلفة، لنتجاوز مرحلة تفتيت الثورة ووأدها، إلى مرحلة بناء الثورة من جديد، على نحو يتلاءم مع المتغيرات المحيطة، مستفيدين من الأخطاء الكارثية التي أوقعنا بها من تصدّر الثورة ومثّلها، سياسيًا وعسكريًا، معتمدين على الخبرات وأصحاب الفكر الوطني، مستفيدين من انهماك الأطراف الفاعلة في وضع البنى التحتية لتشكيل الدولة السورية الجديدة، من خلال الإمعان في العمل العسكري الميداني، لتحقيق أكبر قدر من المكاسب، واستخدامها في الترتيبات القادمة.
ومن هنا، نلمس نيّات التصعيد من مختلف الأطراف الفاعلة، خاصة بعد الإعلان عن القضاء على تنظيم (داعش)، حيث إن روسيا تستعد لمزيد من التصعيد ضد الجماعات التي تصفها بالإرهابية في إدلب، في الوقت الذي تطرح فيه خطة لإنشاء مجموعة عمل دولية، تضم كل الأطراف المعنية بالصراع السوري، هدفها إحلال الاستقرار النهائي، طبعًا بعد القضاء على المجموعات الإرهابية، وتقضي هذه الخطة بأن تنسحب كل القوات الأجنبية من سورية، واستعادة مؤسسات الدولة السورية والحفاظ على وحدة أراضيها، ويبدو أن موسكو تريد، من خلال هذه الخطة التي تقول عنها إنها خطة سلام، أن تغطي استراتيجيتها العسكرية العدوانية ضد الشعب السوري وثورته، إلا أن هذه الخطة التي تخفي خلفها هدفًا أساسًا هو إعادة إنتاج الأسد ونظامه، من خلال تأمين التمويل لإعادة الإعمار وعودة التمثيل الدبلوماسي في دمشق، وقد فشل هذا المسعى فشلًا ذريعًا، عند دول الخليج الممول الوحيد لهذا المشروع، على الرغم من تعهّد موسكو لهؤلاء بإخراج إيران من سورية والحد من نفوذها هناك.
ولعل أخطر ما تواجهه الخطة الروسية هو رفضها من قبل الولايات المتحدة، خشية هيمنة روسيا الكاملة على سورية، ولهذا تقوم أميركا بإيجاد بدلاء منها، في حال انسحابها العسكري من الأراضي السورية، وفي الوقت نفسه تحاول أن تزرع بذور الشقاق بين تركيا وإيران من جهة، وموسكو من جهة أخرى، من خلال إثارة الشكوك حول نيّات بوتين الاستئثار بالكعكة السورية، عبر طلبه خروج القوات الأجنبية من سورية للهيمنة منفردًا على غنائم المعركة، وبخاصة الثروات النفطية، على أثر الصفقات والعقود التي أبرمتها الشركات الروسية مع نظام الأسد، ويمكن أن نقول إن خطة السلام التي تبنتها روسيا مكشوفة الأهداف والغايات، للأسباب التي تمّ ذكرها سابقًا، ولسبب جوهري يدل بوضوح على المراوغة الروسية المكشوفة، وهو قيام روسيا بتعزيز وجودها العسكري في سورية، من خلال تعزيز القدرات العسكرية في قاعدة حميميم، بأعداد كبيرة من الطائرات الحربية الحديثة والحوامات، وكل أنواع العتاد والذخائر الجوية، ونشر أسلحة متطورة من وسائط الدفاع الجوي خاصة S 300 على مساحات واسعة من الأراضي السورية.
أما أميركا وحلفاؤها، من خلال ذراعها على الأرض (قوات سوريا الديمقراطية/ قسد) فهي تتأهب للدفاع عن مواقعها التي كسبتها في قتالها مع (داعش) خوفًا من الهجوم التركي على منطقة شرق الفرات، وأيضًا تحضيرًا لمواجهة يمكن أن تحدث مع الحشود الإيرانية التي تزداد وتيرتها في شرق سورية، جاء هذا متزامنًا مع خطة أميركية مَنحَت بموجبها حلفاءها الأوروبيين إدارة شؤون مناطق شرقي الفرات، وأتاحت العمل على تمكين الأكراد الانفصاليين من إنشاء كيان انفصالي بحكم ذاتي، بالتزامن مع خطة لإضعاف إيران في سورية، من خلال الحصار الاقتصادي على دمشق، وتحذير كل من يحاول أن يقدم الدعم الاقتصادي لنظام دمشق، وخاصة مشاريع إعادة الإعمار، وأيضًا منع إعادة نظام الأسد للجامعة العربية.
كل هذه الضغوطات التي تأتي في ظل مأزق إيراني حقيقي، على المستوى الخارجي والداخلي، دفعت المتشددين في إيران إلى قيادة خطة استفزازية ضد الخطوات الأميركية، من خلال تبني استراتيجية سمّيت سياسة الردع المماثلة للاستراتيجية الكورية الشمالية، والبدء في سياسة تصعيدية لتطوير البرنامج النووي والصاروخي، لإيجاد عامل القوة الذي يجب أن تفاوض من خلاله أميركا، بعد أن تقوم بتهديد المصالح الأميركية في سورية والعراق والخليج والبحر الأحمر، وتهديد “إسرائيل” الحليف الرئيس لأميركا، من خلال نشر منظومات صاروخية في سورية والعراق. ولا ننسى الموقف الروسي من إيران الذي يتمحور حول تقليص دور طهران في سورية، وإبعادها من الغنائم التي طالما دفعت أثمانًا باهظةً للحصول عليها، وهذا ما يفسر الرضى الروسي عن الغارات الإسرائيلية على المواقع الإيرانية في سورية، وتماهي روسيا مع الموقف الإسرائيلي الداعي إلى إخراج إيران من سورية، على الأقل من المنطقة الجنوبية. ولعل المواجهات العسكرية بين إيران وروسيا، من خلال (الفيلق الخامس) التابع في ولائه لموسكو مع (الفرقة الرابعة) التابعة في ولائها لطهران، تدلّ على جدية الصراع بين البلدين، وهذا ما دفع إيران إلى حشد مزيد من قواتها من (الحشد الشعبي) على الحدود العراقية السورية، وعززت مواقعها في الجنوب السوري.
أما أنقره فجُل اهتمامها ينحصر في تحقيق الأمن القومي التركي على حدودها الجنوبية، من خلال القضاء على الأحزاب الانفصالية الكردية، أو تحجيم نفوذها العسكري، ولهذا تسعى لفرض منطقة آمنة على طول حدودها مع سورية في شرق الفرات، وهذا لم يلق الرضا الأميركي ولا الروسي، نظرًا إلى أن الأميركيين يعملون جاهدين لخلق كيان كردي على منطقة جغرافية في شرق الفرات، لاستخدامه كورقة ضغط على الأتراك، أينما شاؤوا وحيثما شاؤوا، ناهيك عن الثروات الباطنية التي تمتاز بها هذه المنطقة. والروس أيضًا يريدون إعادة سيطرة قوات حليفهم الأسد على المنطقة، لسببين مهمين: الأول إرغام تركيا على إعادة العلاقات مع الأسد، من خلال تنفيذ اتفاقية أضنة، والسبب الآخر هو وجود الكثير من آبار النفط التي يسيل لعاب الجميع على استثمارها، وعلى رأسهم الروس، وهم يعتبرون أن هذا من حقهم، وهو بمنزلة رد الجميل من الأسد، على مساعدة موسكو في إبقائه في السلطة.
هذان الموقفان لروسيا وأميركا جعلا تركيا تسعى لإيجاد خطة بديلة، تتضمن إعادة توطين أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين الذين لجؤوا إلى تركيا، في منطقة آمنة رسمتها أنقرة لفرض أمر واقع، يدفع اللاجئين السوريين في تلك المناطق إلى المطالبة بحماية تركيا، خوفًا من هجوم عسكري لقوات الأسد وحلفائها الروس والإيرانيين، ومن ناحية أخرى تعمل تركيا على مد جسور التعاون مع طهران، بعد فشل اتفاقات أستانا وسوتشي مع الروس، وخوف أنقرة من اتفاق روسي أميركي على خطة في شرق الفرات، ويمكن أن نلمس بوادر التعاون الإيراني التركي في شرق الفرات، من خلال تصريحات بعض مسؤولي البلدين حول التنسيق العسكري بينهما للقيام بعملية عسكرية ضد (قوات سوريا الديمقراطية/ قسد) لمنع قيام حكم ذاتي كردي في المنطقة، وتحجيم الدور الروسي في سورية.
في ظل هذه التحضيرات والتحركات العسكرية والسياسية، نجد “إسرائيل” الطرف الحاضر الغائب عن المشهد تلوح بزيادة وتيرة عملياتها في العمق السوري، مستهدفة المواقع الإيرانية، في إصرار على إخراج ايران من المشهد السوري، وهذا ما يصرح به المسؤولون الإسرائيليون دائمًا متذرعين بأن إيران هي من تهدد بتدمير “إسرائيل”، ولهذا يسعون لمنع أي مواقع إيرانية بالقرب من حدودهم، ولهذا قام القادة العسكريون الإسرائيليون بوضع خطة -بالتنسيق مع البنتاغون- لمحاربة النفوذ الإيراني في المنطقة، وذلك من خلال تكثيف العمليات والضربات الجوية للمواقع الإيرانية في سورية، ومنع تمركز الميليشيات الإيرانية على الحدود العراقية السورية، وقطع الممر الجوي بين دمشق وطهران، وقطع الطريق البري بين طهران بغداد دمشق، إضافة إلى منع إيران من نصب قواتها الصاروخية في محافظتي الأنبار وديالي العراقيتين القريبتين من الحدود السورية العراقية، خوفًا من إيجاد خلل في المعادلة العسكرية في المنطقة.
على الصعيد العربي، يمكن أن نقول إن الموقف العربي في أشد حالات ضعفه، بسبب عدم وجود قوة حقيقة على الأرض السورية، إضافة إلى تبعية هذه الدول للقرار الأميركي القاضي بعدم إعادة تعويم نظام الأسد، من خلال فتح بعض السفارات في دمشق، ومحاولة إعادة نظام الأسد إلى الجامعة العربية، وهذا ما دفع بعض الدول التي حاولت تبني هذه المبادرة إلى التوقف عن طرحها، بعد التهديدات الأميركية شديدة اللهجة التي وجهت لها، وبهذا فشلت بعض الدول العربية في إعادة الأسد إلى الحضن العربي، ومن المستغرب أن يقوم الأسد بعد ذلك بشن حملة إعلامية على هذه الدول صاحبة المبادرة، وفي الوقت نفسه يرمي نفسه من جديد في الحضن الإيراني، وترجم هذا بوضوح من خلال زيارته إلى طهران برفقة قاسم سليماني.
ويمكن أن نقول إن الدور العربي تقلص تأثيره على الساحة السورية كثيرًا، نتيجة فشل العرب في إيجاد قوة عسكرية حقيقية على الأرض، أسوة بالقوة العسكرية التركية والروسية والإيرانية التي تسعى لانتزاع نتائج تدخلها ووجودها على الأرض السورية، واقتصر الدور العربي على توفير الدعم المادي اللازم لبقاء بشار الأسد وإعادة إنتاج نظامه، وهذا لم يعط للعرب أي دور فعال على الأرض السورية.
في النتيجة، في ظل هذه التحولات والتباين الكبير في مصالح الدول الفاعلة على الساحة السورية، يمكن أن نقول إن الوضع السوري ما زال في مراحله الأولى، من حيث إعادة الاستقرار والتأسيس لدولة جديدة مبنية على تمازج مصالح جميع هذه الدول الفاعلة في القضية السورية، والمتنازعة فيما بينها على اقتسام أكبر قدر ممكن من الكعكة التي يسيل لعاب جميع اللاعبين عليها، وإن كان على حساب مصالح وتطلعات الشعب السوري الذي نخشى -بعد كل هذه التضحيات- أن تذهب الطموحات والأهداف التي خرج من أجلها هذا الشعب العظيم، أدراج الرياح، وهذا يعتمد أساسًا على ما سيقوم به الوطنيون ورجالات سورية الأحرار، من فعل مشابه لما قام به أجدادهم في عشرينيات القرن المنصرم.