الرئيسة \  واحة اللقاء  \  عن موت بنتٍ اسمها رزان

عن موت بنتٍ اسمها رزان

07.06.2018
سما حسن


العربي الجديد
الاربعاء 6/6/2018
قالت الجدّات الراحلات إن "ابن الموت فالح". وقلن أيضاً إن هذا الفالح يكون "مش ابن عيشة". كأنهن يضعن قانوناً للحياة بأمثالهن الشعبية، ومن خلال تجاربهن في الحياة، ومع عصارة العمر الطويل، وما مرّ بهن، خلصن إلى أن "ابن الموت" هو الذي يكون ذكياً ونشيطاً ومثابراً ومعطاءً، لكنه لا يجد له مكاناً في هذه الحياة، حيث لا عدل، بل الظلم هو دَيْدَنُها، فسرعان ما يموت؛ ليترك مكانه للأغبياء والمتسلقين والوصوليين، والاتِّكاليِّين.
لم تقل جدّاتنا  الغاليات هذين المثلين جزافاً، فهن اعتمدن قانوناً للحياة في الأوطان، من خلال المثل الذي ربما قالته إحداهن، حين توفي ابن الجارة في حادث طريق، وربما ركله الحمار في بطنه وهو يركضُ في أزقَّة القرية، وربما سقط في بئر الماء، فترفع إحداهن سبَّابتها لتواسي نفسها والأخريات، وخصوصاً الأم المتشحة بالحزن الأسود، بأن هذا الولد الفالح لم يكن ابن عيشة أبداً.
ومرت السنوات، ووصل المثل إلى هذا الزمن، ولم نكن نعرف شيئاً عن بنت الموت الفالحة، ولم نسمع عن البنت التي لم تكن يوماً "بنت عيشة"، ففي قريةٍ صغيرةٍ من قرى غزة كانت تعيش هذه البنت، من دون أن يعرف بها، أو يسمع عنها، أحدٌ، سوى مَن هم حولها، أهلُها وأحبَّتُها والفقراء الذين هم على شاكلتها. عاشت 21 عاماً من المعاناة، لكنها كانت قويةً ومثابرةً ونشيطةً ومعطاءة، ولها أحلام ترحل، كلَّ ليلةٍ، مع خيالها، لتصل إلى عنان السماء، ولها أمنياتٌ كثيرةٌ لأحبتها، لكن ضيق الحال كان مأساتها.
رزان بنتٌ جميلةٌ، لها ضحكةٌ تخطف القلب. نشأت في بيت فقير، وزادت معاناة أهله، بعد تعرُّض البيت للدمار في العدوان على غزة في العام 2014. ومع ظروف حياتها الصعبة، اضطرت لترك دراستها الجامعية، قبل عام، لكنها لم تتوقف عن العطاء. وقرَّرت أن تتطوع لإسعاف المصابين الذين يخرجون لمواجهة جنود الاحتلال بصدورهم العارية على الحدود الشرقية لغزة، فصُنِّفت رزان النجار أول مسعفةٍ ميدانية، لتحذو بناتٌ كثيراتٌ حذوها، ويصبحن في الميدان بلباس ملائكة الرحمة الأبيض، والشارات التي تدل على عملهن الإنساني تزيّن صدورهنّ وظهورهن. لم يشفع ذلك لهن أمام نيران القنَّاصة الحاقدة، فنالت رصاصة حقدٍ من فراشةٍ لم تكتمل، اسمها رزان.
هزَّ سقوط رزان قلوبنا، وأصبحت حديث الساعة، وتصدَّرت صورُها مواقع التواصل الاجتماعي، وكذلك المواقع الإخبارية المختلفة، لكننا حطَّمنا صورة الأسطورة التي يجب أن تبقى إلى الأبد، شامخةً، كيف لا والشهداء أحياءٌ لا يموتون؟ فنشر اللحظات الأخيرة لأيِّ إنسان يحتضر إساءةٌ له، لا أدري بأيِّ قلبٍ، أو مشاعر يمتلك أحدهم الجرأة، ليتلقط مقطعاً قصيراً لأنفاسٍ أخيرةٍ لفتاةٍ بعمر الورد، ونحن الذين لا نريد أن نتذكّر لها، بعد رحيلها، سوى تنقُّلها مثل فراشة، وعطرها يفوح حولها، وضحكتها ونظرات عينيها المليئة بالجرأة والكبرياء.. لماذا يصرُّون على أن نراها، وهي تنزف دمها وروحها؟. لو كان هناك ميثاق عمل مهني يؤسِّس لكاميرا وطنية، لما كان هناك كاميرا تخدم عدوّنا بتوثيق دماء شهدائنا وأبطالنا وأشلائهم.
ومسيءٌ أكثر تسابُق الصحافيين إلى اقتناص حديث مع أمها وأبيها. ألا تدرون ما معنى أن تتحدّث الأم بعد موت فلذة كبدها بساعة؟ ألا تدرون كيف يكون وقع الخبر عليها؟ كيف يجفُّ الحلق، وتتوه الرؤى، وتتبعثر المفردات، وأنتم تطلبون منها المستحيل: أن تتكلم وتجيب على أسئلة غبية، تزيد وجعها وألمها. أما الأب فالمطلوب منه أن يكون قوياً وجلداً، أمام العالم؛ لأنه رجل.
أيُّ قسوةٍ نلاحق بها هذين المكلوميْن الثاكليْن، وأيُّ جهل بحجم الامتهان الذي نسبّبه لرزان ووالديها، وكلُّ ما يهمُّنا هو سرعة نقل الخبر، وأيُّ ضحكٍ، حتى الوجع سيلاحقنا، حتى قبورنا، بصدور قرار ترميم بيت رزان بعد رحيلها.. وهي التي كانت أحلامها بسيطةً، مثل غرفة نوم ليست آيلة للسقوط، كإنسانية هذا العالم الذي نجت منه رزان النجار برصاصة.