الرئيسة \  واحة اللقاء  \  عن "عالم بلا خرائط"

عن "عالم بلا خرائط"

04.03.2019
وفاء العلوش


سوريا في تي
الاحد 3/3/2019
على اتساعها باتت الكرة الأرضية ضيقة على السوريين وعلى كثيرين مثلهم ممن لفظتهم أوطانهم خارج حدودها بسبب الحروب أو غيرها من الأسباب الاقتصادية التي اتضحت معالمها الوحشية بشكل أكبر في السنوات الأخيرة.
غير أن الكرة الأرضية ليست ضيقة بالمعني الحقيقي، لكننا -بني الإنسان- أصبحنا أكثر انغلاقاً على أنفسنا وبعيدين عن تقبل الآخر لا معنوياً فحسب وإنما مادياً حتى.
حيث من المفترض أن يكون من حقي كإنسان -أسوة ببقية الكائنات على الكوكب- بقعة صغيرة في أي مكان من الكرة الأرضية لتصبح وطني الصغير، لكن العالم غير العادل أبى إلا أن يصنفنا ضمن إطار كبير تحت مسمّى "اللاجئون".
وعلى الرغم من أن كلمة لاجئ ليست شتيمة أو مذمة في حقيقتها وليست سوى وصف قانونيّ يستخدم في العموم لتوصيف شخص لفظته بلاده فاضطر للهروب باتجاه أماكن أكثر أمناً وأكثر قابلية للحياة غير أنها باتت من أكثر الكلمات إيذاء نفسياً تبعاً لما تحمله من فكر إقصائي.
لقد أصبحنا موصومين بانتماءاتنا التي شكلتها خياراتنا وتجاربنا وأفكارنا السياسية والاجتماعية أو حتى بتلك التي لا ذنب لنا بها، كأن تأتي –على سبيل المثال- إلى هذا العالم بدين مختلف عن دين الآخرين أو بعقيدة لا تشبه عقائدهم، ذلك وحده كفيلٌ بوضعك ضمن إطارٍ مسبق وصورة نمطية يسمحون لأنفسهم من خلالها بقراءة سلوكك وردات أفعالك وانطباعاتك وقيمك ومبادئك.
وانتماؤنا نفسه أصبح يعني بالضرورة إقصاءنا عن الجماعات الأخرى التي تختلف عنا بالانتماء وعدم رغبة المنتمين إليها بوجودنا ضمن محيطهم.
ربما ليس ذلك بغريبٍ عن ثقافتنا كسوريين فقد تعرضنا لهذه المعاناة طوال سنوات وربما ما زال الكثيرون منا يرزحون تحت وطأة التصنيف من خلال أسئلة بسيطة تحمل في طياتها كثيراً من المعاني (من أين أنت؟ من أي عائلة؟ أو ابن مَن؟)
 وهي غالباً أسئلة تكون بداية لعلاقة جديدة -أيا كان نوعها- لمعرفة البلدة الأصلية التي ينحدر الشخص منها ليتم بعدها تصنيفه وفق معرفة طائفته وتحديد هويته السياسية ووضعه المادي ومعرفة شجرة عائلته ونوعية أصدقائه وسمعته وحتى قد يمتد الأمر لتحديد ميوله الجنسية، كل ذلك على الرغم من ادعاء كثيرين بأننا لم نعانِ من طائفية أو قبائلية أو مناطقية في حقبة حكم آل الأسد متذرعين بأن خانة الديانة كانت مغفلة في البطاقة الشخصية الأمر الذي كان شكلياً بحتاً ولم يمنع المجتمع من إلقاء تهمه وفق تصنيفاته الخاصة.
وساكنو الخيام -على سبيل المثال أيضاً- العالقون بين حدود كثير من الدول التي تدعي حرصها على حقوق الإنسان، لا ذنب لهم سوى أنهم ينتمون لبلاد غير مرغوب بساكنيها ضمن حدود البلاد الأخرى وبالتالي فهم يتعرضون للعنصرية والنبذ وتغلق الدول المجاورة الشقيقة -أو حتى تلك التي تعد نفسها سبّاقة في الإنسانية- تغلق حدودها وأبوابها في وجوههم على الرغم أنه ومن باب أولى أن تنبذ وتحاكم من كان سبباً في تهجيرهم أو نزوحهم.
في النتيجة يبدو أننا اخترنا كبشر بمدنيّة مزيفة أن نجعل من العالم سجناً كبيراً وزنازين وأقفاص متنوعة وحدوداً مرسومة سلفاً تبعاً لانتماءاتنا ونمط تفكيرنا وأنسابنا.
غير المنفى الذي نعاني منه كلاجئين لم يعد في اغترابنا خارج حدود أوطاننا، لقد أصبح أكثر عمقاً واتساعاً باتساع الكرة التي أصبحنا نختنق ضمن حدودها العارية عن الإنسانية.
إذ إن الاغتراب الذي نشعر به لم يتمثل في مسألة تصنيفنا فحسب بل تعدى ذلك إلى عدم الشعور بألمنا وعدم الاكتراث بقضيتنا من عالم يعد نفسه أيقونة في الإنسانية وحماية حقوق الإنسان.
إن من أكثر الآفات التي ألمت بالبشرية سميّة والتي كانت يجب أن تستخدم لأغراض علمية بحتة، هي آفة التصنيف، ما أدّى إلى غياب مبدأ المساواة فتم تقسيم الكائنات وفق فئات مثل: فئة الأكثر طولاً، الأكثر وزناً، البيض، السود ، المنحدرون من سلالة كذا، أو الذين ينتمون لـ كذا.
أو ربما إذا حاولنا أن نرى الحكاية بموضوعية أكثر فقد بات من الصعب إنقاذ الشخص لنفسه في هذا العالم وأصبح عاجزاً عن إنقاذ بقية البشر فبات همنا هو الخلاص الفردي على حساب القضايا الإنسانية الكبرى.
قد بات من الصعب إنقاذ الشخص لنفسه في هذا العالم وأصبح عاجزاً عن إنقاذ بقية البشر فبات همنا هو الخلاص الفردي على حساب القضايا الإنسانية الكبرى
لقد تواطأ بنو البشر على رسم تلك الحدود وتزيينها وتجميلها حتى أصبحت قضباناً خلف قضبان سجنّا أنفسنا داخلها دون أن نمتلك الجرأة على كسرها ومحاولة الخروج على الجماعة، وأصبحت القلّة القليلة التي تجرأت وحطمت سجنها، خارجة عن الملّة ومنبوذة من الجماعة التي تتهمها بأشنع التهم وأقبحها، ما جعل كثيرين ممن يودون التخلص من تلك القيود يحجمون ويتخلون عن أحلامهم كي لا يغردوا خارج السرب فيسهل اصطيادهم ويصبحون قرباناً منسيّاً.
ولكن إذا كنا نحن -بني البشر- لسنا متساوين ولا متكافئين في الفرص والحقوق والواجبات وحتى الأحلام فإن أقل ما يمكن أن مطالب به في هذا العالم التعيس هو المساواة في الألم.
 *العنوان مقتبس من رواية الكاتب الكبير عبد الرحمن منيف