الرئيسة \  واحة اللقاء  \  عن أسرلة بعض العرب

عن أسرلة بعض العرب

29.09.2019
ميشيل كيلو


العربي الجديد
السبت 28/9/2019
هل يتطبّع العرب بطباع الإسرائيليين، في علاقاتهم مع بعضهم من جهة، ورؤيتهم لقضاياهم، من جهة أخرى؟
بدأت الأسرلة، حسب علمي، في الثمانينيات، عندما نشرت إحصائية عن توزّع مواطني العراق، واكتشفنا أن معيار الصهيونية الديني، جامعة تصلح لتأسيس أمة، أخذ يطبق هناك، وأنه تم الحديث بكل راحة ضمير عن الشيعة والسنة والكرد بوصفهم أمما منفصلة، آن أوان السماح لها بتقرير مصيرها، أي بالانفصال السياسي وتكوين دول. عند تعداد أمم العراق، تبين أن العرب أقلية تثير الشفقة، تمثل 16% فقط من العراقيين، وأن من حق الأمة الشيعية الانقضاض عليها وإعادتها إلى حجمها الحقيقي، خصوصا أن العراق لم يكن يوما عربيا، كما عديد من مسؤولي إيران، وأقسموا أغلظ الأيمان أن من الأفضل، حتى لعرب العراق، هجر جنسيتهم، بما أن الانتماء إليها بلا عائد، والانضمام إلى إيران هو فرصتهم للنجاة بأنفسهم.
تلك كانت المرة الأولى التي ُطبق فيها المعيار الصهيوني، بمساعدة فقهية من طهران، عن الدين عاملا كافيا وافيا لإنشاء أمة. ولكنها لم تكن المرة الأخيرة، فقد شرع بعض عتاة الاختراق المتأسلم للثورة السورية يتصهينون، ويعلنون، بمناسبة وبلا مناسبة، أن "أهل السنة والجماعة" يمثلون أمةً تامّة التكوين، ومستهدفة من أعدائها في مشارق الأرض ومغاربها، وعليها أن ترد على العدوان جسدا واحدا، على أن تقاوم خطرين يأتي أحدهما من الأقليات التي تعيش بين ظهرانيها، والآخر من الحرب الصليبية الشاملة التي يشنها الغرب المسيحي عليها، وتُلزمها بالرد عبر حرب شاملة معاكسة، ستكون فاعلةً بقدر ما تقوّض أمن مواطنيه الكفرة، وتنضوي في سياق المعركة من أجل "أسلمة العالم"، والقضاء على علمانيته.
أخيرا، وصلت الأسرلة أو الصهينة إلى لبنان، حيث استنسخت قلة من مواطنيه تجربةً حدثت في فلسطين المحتلة، بعد قرار حاخامي بنبش قبر مواطن نمساوي سقط خلال حرب السويس عام 1956، وهو يقاتل مع الجيش الإسرائيلي في سيناء، وإخراجه منه، لأنه مسيحي، ودفنه في مقبرة يهودية يزعج موتى اليهود. ألهم هذا المثال المنحط واللاإنساني بعض بلديات لبنان بضرورة حماية الموتى اللبنانيين من الموتى السوريين، كي لا يزعجوهم في قبورهم، فقرّرت عدم السماح بدفن أي سوري في مقابرها، بل بلغت الصهينة حدا من الغلو جعل إحدى البلديات تجبر أبا سوريا على حفر قبر طفله، ذي الأعوام الأربعة لإخراجه منه، بعد أربعة أيام من دفنه في مقبرتها التي لا تتسع لغير اللبنانيين، كما جاء في قرارها، بينما حيّت بلديات أخرى هذه الخطوة بإعلاناتٍ تتعهد بعدم السماح بدفن أي سوري في أرض لبنانية!
أخشى أن ينتشر هذا القدر من الأسرلة والصهينة أكثر فأكثر في مقبلات الأيام، مع الانتشار المتزايد لنزعة تفكيك الانتماء إلى تاريخ ولغة وثقافة ومصالح وآمال وأديان مشتركة، وتحوّل بسطاء الناس إلى ضحايا سياسات تشتتهم وتفتتهم، انطلاقا من انتماءاتٍ بديلة، أدلج معتنقوها المختلفون الدين وحوّلوه إلى سلاح قتل ودمار وإرهاب، على الطريقة الصهيونية، أو إلى خصوصية تتلبسّها ميول عنصرية إقصائية، كالتي دفعت البلدية المعنية إلى اتخاذ قرار يسوّغ إخضاع مواطنيها لما أخضعت له الطفل المسكين، عملا بقاعدة أخلاقية تقول: عندما تعتدي على حقوق الآخرين، فأنت تتخلى عن حقوقك، وتعطي غيرك الحق في الاعتداء عليك، وتتحول إلى ضحية لفعلتك، وتدمر إنسانيتك وإنسانية سواك بيديك، فلا يبقى له غير الثأر منك في أول فرصة تتاح له.
هل يقبل لبنان الذي نعرفه ونحبه أن يؤسرله بعض الجانحين، ويجرّدوه من إنسانيته، وهل يقف مكتوف اليدين بينما يعتدي هؤلاء على الموتى، بعد الأحياء؟