الرئيسة \  واحة اللقاء  \  عندما وقعنا في الشرك الكبير!

عندما وقعنا في الشرك الكبير!

13.12.2018
حسان الأسود


سوريا تي في
الاربعاء 12/12/2018
كنّا نلهث دائماً من شدّة تسارع الأحداث، ولم نكن في الغالب الأعمّ قادرين على التقاط أنفاسنا ولا على إدراك المرحلة ومتطلّباتها. لقد أُغرِقنا، بل وأحياناً كثيرة أَغرَقنا أنفسنا بالتفاصيل الدقيقة، ونسينا الصورة العامة التي كان يجب أن ننظر إليها عن بعد، لتتكاملَ المشاهدُ في لوحة كبيرة واضحة المعالم والألوان.منذ اليوم الأول للثورة السورية كان سائداً لدى أغلب الثوّار وخاصّة الشباب منهم، هذا الشعور العارم بالقوّة والفخر، وهذا الإحساس العميق بقرب زوال الاستبداد وانتصار قيم الحرية والديمقراطيّة والعدالة. لقد كانت الحماسة تأخذنا في متاهات الزهو والشعور بالتفوّق الأخلاقي، وهذا ما بدأ يتبدّل شيئاً فشيئاً مع مرور الأياّم وتتابع الوقائع.
في البداية كانت التضحية والفداء والإقدام والشجاعة والإيثار أغلى القيم، وكانت سائدة في عموم مناطق الحراك الثوري. لم نتنبّه إلى أنّ النظام – بما لديه من قدرات هائلة على التخطيط والتنظيم – قد أدرك نقاط ضعفنا وعرف نقاط قوّتنا فركّز على تعزيز الأولى منها وعلى تحطيم الثانية.
كان انعدام وجود قيادة للثورة، منذ بدايتها وحتى عمّت أغلب مدن وقرى سوريا إحدى أهمّ نقاط قوّتنا، لكنّها تحوّلت بعد بضعة أشهر لأكبر نقطة ضعف. ليس المقصود بالقيادة تلك المجموعة من الأشخاص القادرين على رسم السياسات العامّة أو الخطط المرحليّة للعبور بالحراك الشعبي عبر المطبّات والمنعطفات فقط، بل أيضاً تلك الحالة المعنويّة التي تعي هذه الضرورة من قبل النخب الفكرية والسياسية من جهة، والإيمان الراسخ بضرورة وجودها لاكتمال عناصر القوّة من قبل الأغلبيّة الثائرة ضدّ نظام الاستبداد من جهة ثانية.
انقسمت النخبُ التي تصدّرت قيادة المشهد الثوري على بعضها، وكان أن اتّسم أغلبها بضيق الأفق والشخصنة
عملت نخبُ المعارضة على تقسيم الشارع وفق أهوائها وتبعيّاتها من جهة، كما سارت وراءه في شعبويّة غير مسبوقة للحصول على شرعية بُنيويّة مفقودة
والانحياز للتيّار أو الحزب أو العقيدة القومية أو الدينية أو حتى المذهبيّة، الأسباب كثيرة وراء ذلك وقد يكون أهمّها انعدام الممارسة الوطنيّة للشأن العام مدّة نصف قرن ونيّف. بينما كانت مراكز قوى النظام تزداد تلاحماً حول رأس الهرم في بناء سلاسل مترابطة من خطوط الدفاع وجدران الحماية.
عملت نخبُ المعارضة على تقسيم الشارع وفق أهوائها وتبعيّاتها من جهة، كما سارت وراءه في شعبويّة غير مسبوقة للحصول على شرعية بُنيويّة مفقودة كانت تبحث عنها من جهة ثانية. أدّى هذا الأمر إلى إحساس عامٍّ لدى الناس على الأرض بأنّهم يشكلون بمجموعهم القيادة السياسية والميدانيّة للثورة، بينما لم يكن فعلهم الحقيقي يتجاوز دوائر محيطهم المحلي على أبعد تقدير، خاصّة بعد أن قطّعَ النظام أوصال البلد بالحواجز العسكرية والأمنيّة.
انتقل الإحساس من مستوى القناعة الفرديّة إلى مستوى التطبيق العملي الجماعي، بحيث بات من مصلحة القوى المسيطرة تدريجيّاً نفي حالة الضرورة السابقة وإحلال ضرورة جديدة مكانها، ضرورة بقاء القيادة بيد أصحاب سلطة الأمر الواقع.
بالمقابل كان النظام يعطي هامشاً واسعاً لقيادات الصفوف الدنيا والمتوسّطة من قوّاته ليعزّز لديهم روح المبادرة والارتجال والتصرّف، ما دامت أفعالهم الإجراميّة تصبّ في منحى إرهاب المجتمع عموماً والثائرين على النظام خصوصاً. أدّت هذه السلطات الاستنسابيّة الواسعة للقادة الميدانيين من عناصر المخابرات والجيش إلى تعزيز الالتفاف حول القيادة العليا باعتبارها قد فتحت لهم سُبُلَ الاسترزاق والنهب وفرض السلطة المطلقة دون خوف من حساب أو عقاب.
كانت المسافة تزداد يوماً بعد يوم بين انفصال الشارع الثوري عن القيادة الميدانية، وكلاهما عن قيادة مؤسسات المعارضة السياسية، وبين تلاحم مصالح رأس النظام وقادة الصفّ الأوّل من صنّاع القرار مع القادة الميدانيين من الأمن والجيش والميليشيات المحلّية والأجنبيّة.
فرّقت المصلحة الفرديّة صفوف الثوّار والمعارضين، بينما وحّدت نفس المصلحة الفرديّة صفوف المرتزقة والمنتفعين والمستبدّين. لقد زال عنصر التفوّق الأخلاقي من ساحة الثوّار، فانتصر عليهم النظام بعد أن تساوت موازينهم القيميّة ورجحت كفّة ميزان القوّة الصرف والتنظيم والقيادة المركزية.
ثمّ كانت مشكلتنا الكبرى الثانية المترتّبة على انعدام القيادة السياسية الواحدة، ألا وهي اللجوء إلى العنف الثوري من خلال التسليح، إضافة الشعبويّة وضيق الأفق وانعدام التخطيط للمستقبل.
لقد عرف النظام كيف يجرّنا إلى التسليح من جهة، وكيف يصبغ حراكنا الوطني السلمي الديمقراطي بصبغة دينيّة تزايدت ألوانها قتامة يوماً بعد يوم إلى أن أصبحت سوداء قاتمة من جهة ثانية.
أطلق سراح المعتقلين الإسلاميين من سجونه في شهر أيار من العام 2011 بموجب مرسوم عفو رئاسي مدروس بكلّ عناية. ثم ركّز على قتل واعتقال نشطاء الحراك الثوري المدني، وعلى تسهيل هروب أو سفر من لم يتمكّن من اعتقالهم أو قتلهم.
بهذا أفرغ الساحة أمام المشاريع الأيديولوجيّة الدينية، ووفّر لها السلاح عن طريق وكلائه المحليين والإقليميين، وقد لعب عناصر حزب الله دوراً بارزاً في تسليح الثوار عن طريق لبنان من خلال الحدود المفتوحة بين البقاع والقصير وغيرها من المناطق الحدودية الأخرى. وعلى الجانب الآخر بدأ بتسليح أبناء الطائفة العلويّة وأبناء الطائفة الشيعيّة أينما كانوا وحتّى قبل أن تنتقل الثورة إلى طورها المسلّح. كما بدأ بتسريب التسجيلات ومقاطع الفيديو ذات المحتوى الطائفي لتأجيج النزعات ما دون الوطنية عند جميع أفراد المجتمع السوري.
استطاع النظام إشراك الطائفتين العلوية والشيعيّة في الصراع مباشرة، ثم استمال فئات كبيرة من المسلمين السنّة ومن المسيحيّين ومن الدروز، ومن لم يستطع زجّه في أتون الحرب مباشرة، حيّده أو وضعه موضع الرهينة الخائفة من كلا الطرفين.
هكذا بدأت تتقلّص مساحة الفعل الثوري الوطني الحقيقي رويداً رويداً، إلى أن تلاشت مع ظهور التيارات الإسلاميّة المختلفة من أقصى يسارها إلى أعتى يمينها المتطرّف المتمثّل بالنصرة وداعش.
كان لتسليح الثورة الأثر الأكبر على انزياح مراكز التأثير من يد المدنييّن إلى يد العسكر أولاً، وعلى سيطرة قوى لا تؤمن بمبادئ الثورة من أساسها ثانياً. لقد كان الميدان العسكري بالأساس ميدان النظام وساحته المفضّلة، ولم يعد يهمّ التوصيف المُطلق على هذا الصراع بعد أن تغيّرت التسمية من "الثورة الشعبيّة" إلى محاربة الإرهاب أم حتّى إلى الحرب الأهلية، فقد كان النصر بلا شك حليفاً للنظام قانونياً وسياسياً وإعلامياً، لأنه ببساطة بات صراعاً على السلطة بين حكومة معترف بها دولياً، وبين متمرّدين يناصبونها العداء.
ثم جاء الشرك الأخطر والطامّة الكبرى عندما ارتهن حملةُ السلاح إلى الخارج، فبعد أن كان الثوار الأوائل يعتمدون على ما يشترونه من سلاح وذخيرة بمدّخراتهم وحُليّ نسائهم، باتوا رهائن لغرف الموك والموم، وبالتالي خرج القرار من أيديهم بشكل نهائي.
لم يكن النظام على الضفّة الأخرى بمنجاة من هذا الارتهان، وكما فعل الدكتور فاوست قبل خمسة قرون عندما باع روحه للشيطان، وضع النظام مقاليد أموره بيد كلٍّ من روسيا وإيران، وهكذا لم يبقَ من السوريين أي أحد خارج دائرة الصراع وخارج دائرة الارتهان. حتّى الفئة الرماديّة التي حاولت البقاء على الحياد، انخرطت مرغمة في الصراع على إحدى الجبهتين حتى وإن لم تدرك ذلك أو لم ترده أو تسعى إليه.
وحتى هذه اللحظة، وأينما توجّهنا بأبصارنا في مناطق سوريا المختلفة، سنجد نفس العقليّة السائدة عند جميع السوريّين. مازال الانقسام كبيراً في صفوف الناس الذين يعيشون في المناطق الخارجة
 جمهور كاملٌ من المؤيّدين يرسف في أغلال العبوديّة ويأبى الخروج منها أو مجرّد حتى التفكير بذلك
عن سيطرة النظام، وكذلك في أوساط أولئك الذي عادت مناطقهم لسيطرته بالقهر والقوّة أو بالمصالحات. انقسام فكري أيديولوجي عميق بين عدّة فئات، إحداها كانت وما زالت تغلّب الولاء للجماعة أو التيّار أو الحزب على الولاء للوطن والثورة، والأخرى تغلّب المصالح الفرديّة الشخصيّة على كل مصلحة واعتبار، والثالثة وهي القلّة القليلة من الثوّار الحقيقييّن الذين مازالوا على العهد في ولائهم للوطن والإنسان وقيم الثورة الأولى.
وعلى ضفّة النظام مازلنا نرى هذا الانحطاط الخلقي والفكري المقزّز، ونشاهد أشباه البشر الذين لم يستطيعوا التعلّم من أهوال الحرب سوى الإسفاف في التملّق والتذلّل والانبطاح. جمهور كاملٌ من المؤيّدين يرسف في أغلال العبوديّة ويأبى الخروج منها أو مجرّد حتى التفكير بذلك، يريدون إعمار البلد بتنسيب طلّاب المدارس لطلائع البعث وحوزات الخميني وبوتين، وببناء تماثيل قائدهم الخالد وبالعودة إلى حظائر التجنيد هاتفين باسم قاتلهم كي يحيا إلى الأبد.
لقد وقعنا في الشرَك الكبير عندما قبلنا بانقلاب البعث الأول وعندما سكتنا على جرائم العسكر المتتالية، لم يبق من سوريا سوى اسمها، شكلٌ بلا جوهر وبلا روح، هذا التاريخ العريق المعمّر منذ بدء البشريّة، تم اختصاره بشخص الأسد. يا لهول المأساة، يا لوقع الفاجعة! ما الخطيئة الكبرى التي ارتكبناها لنستحقّ كلّ هذا العذاب وكلّ هذا السخط؟ وإلى متى ستبقى الصخرة تُثقلُ كاهل سيزيف في رحلة الشقاء الأبديّ؟ أما آن لنا أن نتخلّص من كل هذه القذارة ومن كلّ هذا الخراب، أما آن للعنقاء السوريّة أن تنهض من تحت الرماد؟