الرئيسة \  واحة اللقاء  \  عمود الملح السوري!

عمود الملح السوري!

07.06.2018
علي نون


المستقبل
الاربعاء 6/6/2018
"عاد" صدّام حسين إلى الجنوب العراقي بعد اندحاره من الكويت في العام 1991، وقضى بأسلوبه المعهود على ما سُمّي آنذاك بـ"الانتفاضة الشعبانية".. و"عاد" من بعيد بالممانعة السياسية، إلى مناطق الأكراد في الشمال من دون أن يتمكن من اعتماد الطريقة ذاتها التي اعتمدها جنوباً. لأن الأميركيين رسموا خطّاً أحمر في وجهه من خلال حظر طيرانه الحربي وسمحوا بذلك في إنعاش وتظهير "حدود" للكيان الكردي، لا تزال قائمة إلى اليوم!
"أفضال" صدّام في كل حال، كانت سابقة على الكرد في الشمال.. وتاريخية ومرتبطة باسمه شخصياً وباسم "البعث" عموماً أكثر من ارتباطها بالأسلاف الذين حكموا العراق قبل وغداة الانقلاب المشؤوم الذي قاده عبد الكريم قاسم على الحكم الملكي في العام 1958.. وأبرز محطات تلك "الأفضال" كانت مدينة حلبجة التي شهدت حرفياً أول وأكبر استخدام للغازات السامّة ضد المدنيين في العالم منذ محارق النازي في الحرب العالمية الثانية.
ترنّح صدام في بغداد. وكاد يسقط عملياً بعد تلك الانتفاضة التي شملت (بالمناسبة) 14 محافظة من أصل 18، لولا قرار الرئيس الأميركي يومها جورج بوش الأب، والذي (للمفارقة) اعتبر أن ذلك السقوط سيفتح الطريق أمام الإيرانيين (قبل أوانه على ما يبدو!).
"عاد" إلى ما يشبه الحطام التام! وظلّ "الرئيس" و"القائد الضرورة" في بلد تشلّعت أوصاله، وتحطّم جيشه، وبارت صناعاته. وضَمُرَ اقتصاده، وتهاوت عملته، واخترب عمرانه، وكثر أيتامه وأرامله، وتبخّرت طبقته الوسطى، وعمّ الفقر في معظم أرجائه و"طبقاته".. وتحوّلت "البغددة" من كونها مضرب مَثَلْ يدلّ على الرخاء والغنى والغنج إلى مضرب مَثَلٍ للبؤس والقنوط والخوف والسواد.. وصارت عاصمة الرشيد مثل الكرنتينا المفتوحة على وسعها، وهي التي كانت درّة تاج الدنيا في زمانها وأعظم المدن على وجه الأرض!
بقي صدام منذ العام 1991 حتى العام 2003 حارساً أميناً لصيرورة العراق برمَّته شيئاً من التاريخ.. حرص بهمّة مشهودة على "رعاية" وإكمال تصفية مقوّمات ذلك البلد الخطير في عمرانه وبنيانه وسلطاته و"دولته" واجتماعه واقتصاده وقدراته.. وعندما حانت الساعة، فَرَطَ كل شيء مثل عمود الملح. ودخل العراق دهليزاً لم يخرج منه بعد!
.. عاد أو سيعود رئيس سوريا السابق بشار الأسد إلى الجنوب السوري. باعتبار أن إسرائيل لا "ترتاح" لغيره! وتجد فيه "ضمانة" و"سدّاً" في وجه تمدّد الإيرانيين وميليشياتهم باتجاه الحدود! وعلى السيرة ذاتها لصنوه الراحل في بغداد، لن "يعود" عملياً إلى الشمال لكنه يبقى في مركزه الدمشقي ممانعاً ومعانداً للواقع الذي استجدّ هناك، سوى أن الروس والأتراك يلعبون اليوم الدور الذي لعبه الأميركيون في الشمال العراقي عام 1991: رسموا خطوط منطقة حظر برّي وجوّي غير معلنة (بالمعنى الشرعي الأممي) ولجموا شهوة الفتك عند السفّاح. وامتنعوا (الروس تحديداً) عن متابعة المذبحة باسمه!
.. عاد ليطمئن إلى بقائه "رئيساً" وصنو "الأبد" في بلد تشتت وتفتت! وتبخّرت مقوّماته العمرانية والسلطوية والاقتصادية والمالية والسيادية بكل تفاصيلها وضروبها وعناوينها.. وراح أهله إلى المقابر والمنافي القريبة والبعيدة، وصارت سوريا عنوان نكبة عزّ ويعزّ نظيرها في التاريخ الحديث بعد أن كانت أعظم معالم التاريخ القديم، وفي دمشقها تغنّى العالم ببستان هشام!
في السنوات السبع الماضيات أشرف بشار الأسد على تدمير كل مقوّمات الحياة في سوريا! ورعى بدأب وهمّة شبيهَين بخصال صنوه البعثي العراقي الراحل، عملية إخراج ذلك البلد المحوري والخطير من الجغرافيا السياسية المأزومة في الشرق العربي. لكن لم يستنفد بعد جلّ وظائفه.. وسيبقى حيث هو، ولو على شكل فزّاعة خشبية، إلى أن يستكمل تماماً بتاتاً تلك الوظائف بحذافيرها! وتقوم قائمة عمود الملح! وهذا في كل حال، لن يأخذ الوقت الذي أخذه عمود ملح صدّام العراقي قبل أن يهرَّ.. منطقياً وحسابياً!