الرئيسة \  واحة اللقاء  \  عدالة سوريّة في المنفى 

عدالة سوريّة في المنفى 

28.02.2021
عمر قدور



المدن 
السبت 27/2/2021 
واحدة من مفارقات غياب العدالة أن يأتي من دمشق خبر وفاة ضابط المخابرات بهجت سليمان بعد يوم من إدانة المتهم إياد غريب في محكمة كوبلنز الألمانية، المتهم كان عنصراً في المخابرات السورية برتبة صف ضابط، ثم انشق بعد شهور قليلة من اندلاع الثورة والتحق بالجيش الحر. أمام إياد غريب أربع سنوات ونصف من السجن قضى منها سنتين، إذا لم يُنقض الحكم، بينما قادة أجهزة المخابرات وقادتهم من العائلة الحاكمة يواصلون تنكيلهم بالمعتقلين، ويتمتعون بسيطرتهم على سوريا كأرض للجريمة والإفلات من العقاب. 
قبل أسبوع من إدانة إياد غريب، شاع خبر تهريب 900 ألف وثيقة تدين سلطة الأسد، بما فيها رأس السلطة بشار. الخبر ليس جديداً تماماً للمتابعين، بل هناك منذ سنوات فيلم يوثّق تخزين الوثائق في مخابئ سرية، على أمل أن يأتي يوم تتوفر فيه الإرادة السياسية الدولية لمحاكمة تنظيم الأسد على غرار محاكمة مجرمي يوغسلافيا السابقة، أو حتى على غرار محاكمة نظام عمر البشير التي لم تجلبه إلى العدالة. 
 هي حصيلة محزنة مع انقضاء عشر سنوات على انطلاق الثورة السورية، وما ارتكبته سلطة الأسد في حق السوريين من جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، فضلاً عن جرائمها السابقة طوال عقود، بما فيها الجرائم المرتكبة خارج سوريا. هي، على الأقل، حصيلة غير كافية للمبالغة في الابتهاج، أو لاعتبارها خطوة واسعة نحو تحقيق العدالة، بما أن جلب المجرمين الكبار للمثول أمامها هدف لا تستطيع المحاكم الأوروبية تحقيقه ولو أصدرت مذكرات جلب في حقهم. 
أُدين إياد غريب باعترافاته، لا بشهادة شهود ولا بوجود مدّعين ضده. الادعاء العام أخذ بالأسباب التخفيفية، فلم يطلب له العقوبة القصوى، والقضاة أصدروا حكماً مخففاً عمّا طالب به المدعي العام. أهمية الحكم أن شهادة إياد ستكون قرينة ضد المتهم الآخر أنور رسلان الضابط السابق في المخابرات الذي أنكر التهم وأنكر وجود تعذيب في المعتقلات، وهو أول حكم تصدره محكمة أوروبية بموجب الولاية العالمية، ما سيتيح الاستئناس به في قضايا قد تُرفع لاحقاً أمام محاكم أوروبية. مع التأكيد على أنها قضايا ستطال إما مستويات دنيا من مجرمي الأسد كما هو حال محاكمة الطبيب علاء موسى الذي احتفظ بموالاته رغم لجوئه إلى ألمانيا، وهو متهم بتعذيب معتقلين كانوا يُجلبون إلى المستشفى العسكري، أو ستطال منشقين بسبب ماضيهم مع السلطة، وربما منتسبين إلى فصائل ارتكبت انتهاكات حقوقية. 
 الانشقاق، بموجب قرار المحكمة، لا يُعفي من الجرائم المرتكبة قبله. هذا ما يؤكد عليه أيضاً الحقوقيون السوريون الساعون إلى إجراء المحاكمات أو المساهمون فيها، لكنهم يقولون ذلك باستعجال، مع تمهل عند توصيف المتهمين أو المدانين بكونهم جزءاً من السلطة وبكون إدانتهم تُعدّ إدانة لها. من هذه الزاوية يبدأ الخلاف حول المحاكمات بين سوريين معارضين، المتحمسون للمحاكمة يرون أن إياد غريب "مثلاً" نال حكماً مخففاً، وسيمكث في سجن مريح لا يُقارن بالمعتقلات التي ربما ساعد على إيصال متظاهرين إليها، حتى إذا لم يكن راغباً في ذلك. للمشككين في عدالة الحكم رأي آخر ينطلق من تفهّم ظروف المُدان قبل انشقاقه، ومن الانتباه أكثر إلى تبرعه بالشهادة التي استُخدمت ضده، لتبدو محاكمته كأنها عقاب لأمثاله من المنشقين أكثر من كونها محاكمة لجرائم الأسد. ثم، ليس واضحاً حتى الآن ما إذا كان احتسابه على الأسد سيعني إمكانية ترحيله بعد انتهاء سجنه ليُسلَّم إلى مخابرات بشار؟ 
المبالغة قد تضرّ بسمعة التحرك أمام المحاكم الأوروبية لدى السوريين، التحرك الذي له طابع رمزي ومعنوي أكثر مما له أثر في ميزان العدالة الذي يريدونه. من ذلك، التصريح الذي نُقل عن المحامي أنور البني الذي وصف الحكم على إياد غريب بـ"التاريخي لأنها المرة الأولى التي يُحاكم فيها شخص من نظام لا يزال في السلطة". من يقرأ أو يستمع إلى هذه التصريحات يظن المُدان موالياً حتى الآن، ما يسيء إليه بقدر ما يثير الخلافات ويسيء إلى القضية برمتها.  
يمكن، بما لا يتطلب حداً استثنائياً من الرحمة، التوفيق بين مساندة الحكم الصادر واعتبار العقوبة تكفيراً من المدان عن ماضيه في المخابرات، خاصة أن الحكم مبني على اعترافاته فقط. بالتأكيد، من حق المدان الطعن في الحكم ومحاولة الحصول على أقل عقوبة، ومن حقه أيضاً نيل التشجيع للقبول بمبدأ العقوبة وعدم اعتبارها وصمة شخصية أو انتقاصاً من انشقاقه ثم تبرعه بالاعتراف بماضيه. 
للمتحمسين الذين يرون العقوبة أقل من جرم إياد غريب، وفي سجن لا يحلم برفاهيته المعتقلون لدى مخابرات الأسد، لهؤلاء ينبغي توضيح الواقع السوري بوجود مئات الألوف من أشباه إياد غريب، بل من المتورطين أكثر منه وحتى الآن. الفهم المتطرف للعدالة لا يشبعه أقل من وضع رؤوسهم جميعاً تحت المقصلة، وهو حل قد يتمناه الآن كثر بسبب استمرار المجزرة، إلا أنه لا يستقيم واقعياً على فرض سقط الأسد، ولا يستقيم حماس بعضهم مع المطالبة بعدالة انتقالية تعقب تنحية الأسد ومن المرجح أن تكون أكثر تساهلاً من محكمة كوبلنز مع المتورطين الصغار. 
في الأصل، لا فائدة من الجدل استناداً إلى مفهوم العدالة، لأنه مفهوم مطلق يصعب التحقق منه. في حالتنا يزداد الأمر صعوبة بالحديث عن عدالة في المنفى، في حين أن الأمر يتعلق بعملية قضائية عاجزة عن الاقتراب من الإنصاف. مع ذلك يقدّم الحكم على إياد اقتراحات للتمرين على التعاطي مع المسألة الحقوقية، أولها التسامح مع مستوى منخفض من التورط والنظر إلى العقوبة ضمن إطار التسامح نفسه لا في إطار القصاص. قد يفيد هذا في التخلص من فكرة القصاص المعمم نفسها، لأنها تُفرغ العدالة من واقعيتها ونسبيتها، خاصة في مواجهة نظام مخابراتي شرس تمكن من توريط الملايين ضمن نسقه. قد يفيد الحكم على إياد إذا جرى التعاطي معه خارج منطق الانتصار لدى البعض والهزيمة لدى البعض الآخر من أبناء القضية نفسها، أي عندما يتفق الطرفان على أنه ألمهم المشترك لتصفية الحساب مع الأسدية.