الرئيسة \  واحة اللقاء  \  عامان بعد عفرين وتداخلات عارمة في شرق الفرات ومنبج

عامان بعد عفرين وتداخلات عارمة في شرق الفرات ومنبج

03.02.2020
براء صبري



القدس العربي
الاحد 2/2/2020
لم تكن الأيام التي تبعت سقوط منطقة عفرين في يد تركيا والميليشيات السورية الموالية لها عبارة عن آخر المحن في المشهد السياسي والعسكري للمناطق التي تديرها قوات سوريا الديمقراطية. كانت عفرين البوابة الرئيسية لتمدد تلك الآلام. التمهيد الأول لظهور تلك الندوب الواسعة في جسد كيان شرق الفرات كان مع قطع الطريق بين منبج وعفرين وسيطرة تركيا على جرابلس والباب، ومن ثم بدأت تلك الندوب تتحول إلى جراح حقيقية بالهجوم الكاسح على منطقة عفرين قبل عامين واحتلالها، ولم تلتئم بل زادت انتكاسة بعد سقوط تل أبيض ورأس العين (سرى كانيه) قبل حوالي ثلاثة أشهر في يد تركيا وحلفائها من جديد.
هذه التبدلات في ساحات الصراع السورية زلزلت ركائز المسرح الذي كان حتى قبل سقوط عفرين واضح المعالم، وجلي الشخصيات، ومقروء السيناريو. لكن، كانت ضربة عفرين مرحلة جديدة تورمت معها الحساسيات، وزادت التداخلات السياسية والعسكرية، واضطرب ميزان القوى لدرجة إن وصل الحال أن يشاهد الجميع مرور قوات أمريكية عبر حواجز للنظام السوري، ولدرجة أن تقود قسد دورية روسية إلى قاعدتها الأساسية بعد منع عبورها إلى المالكية من قبل الأمريكان، ولدرجة أن تمر الدوريات التركية بحماية روسية في القرى الكردية الشمالية بعد سنوات من محاولات الأكراد تحييد مناطقهم عن الصراع السوري الأوسع. كل هذه التقلبات في المشهد كانت نتيجة عوامل داخلية، وأخرى إقليمية، وأخيراً دولية.
لم تكن هناك مجالات للمناورة والقفز على المخططات المباشرة للتدخل في المنطقة. ولكن، كل هذه التطورات لم تُحيد تركيا عن هدف واحد ضمن أهداف كثيرة أخرى، وهو تثبيط “قسد” في سوريا. تنازلت تركيا عن كل شيء في سوريا باستثناء محاربة نمو كيان مفترض جنوب حدودها، وهو ما دفعها للتخبط بين روسيا وأمريكا، ومحاولة كسب الطرفين. ملف واحد طغى على كل الملفات الأخرى، وترك تركيا التي كانت تنظر بعد التظاهرات التي عمت العالم العربي إلى المنطقة بعيون تمددية واضحة من تونس إلى سوريا، تنكمش لتحاول أن تظهر نفسها أقوى من جهة عسكرية محلية تسمى “قسد”.
التغيير الديموغرافي
في العشرين من الشهر الماضي أصدرت الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا بياناً تقول فيه: “في مثل هذا اليوم من عام 2018 قامت قوات الاحتلال التركي مدججة بكل أنواع الأسلحة الثقيلة وبمشاركة فصائل ما يسمى بالجيش الحر بعدوانها الهمجي على مدينة عفرين ما أدى لاستشهاد المئات ونزوح عشرات الآلاف وإتباع سياسة الأرض المحروقة من خلال عمليات القصف البري والجوي وما تبعها من عمليات التغيير الديموغرافي والتهجير القسري الممنهج والسلب والنهب على أيدي المرتزقة التابعين للدولة التركية” هذا البيان الذي جاء في الذكرى الثانية لسقوط المنطقة في يد تركيا لا يستطع تغيير شيء من الواقع على الأرض. حيث تؤكد كل الجماعات الحقوقية التي تراقب الحرب السورية حقيقة الانتهاكات الكبيرة بحق السكان الأصليين في منطقة عفرين تبعه مثال جديد نهاية 2019 في تل أبيض ورأس العين. ورغم موافقة المحلل السياسي اللبناني يغيا طاشجيان المهتم بشؤون الشرق الأوسط ومنطقة القوقاز على أن تركيا تسعى لإحداث “تغيير ديموغرافي في عفرين” كما قال لـ”القدس العربي” عندما سألناه عن التطورات هناك حيث أكد أنه: “ليس سراً أن الرئيس التركي اردوغان أعلن نيته إعادة توطين اللاجئين السوريين والتركمان في القرى الكردية والمسيحية” وأكد “أن تركيا تريد منطقة متجانسة اجتماعياً للتأثير على الناس من خلال قوتها الناعمة وثقافتها”.
السياسة التركية
لم تكن السياسة التركية بهذا الانكشاف في الملف السوري الهام لها كما هي هذه الأيام. تقوقعت المصطلحات الصادرة في بيانات أنقرة، وهزم الالتفاف والدبلوماسية أمام مشاهد الهجمات التركية على المناطق، ولم يعد لتركيا منفذ لتبرير دخولها للمناطق الشمالية لسوريا سوى التصريح برغباتها في تعزيز وجودها هناك، وتدمير ما تسميه “الممر الإرهابي” الذي تشير فيه إلى كامل الخط الجنوبي لحدودها، والذي هو تحت إدارة قسد. هذه التحركات بالإضافة إلى التصريحات والتحليلات تحجم فرص المناورة لتركيا للتغطية على خططها الواضحة. وعلى الرغم من أن الدور التركي أصبح مؤطراً بشكل واضح في سوريا فقد قال الكاتب والمعارض السوري على العبد الله لـ”القدس العربي” عندما سئل عن الدور التركي في سوريا وقال: “للإجابة على هذا السؤال مستويان، الأول يتعلق بمبرر التدخل، فالعوامل الجغرافية والسياسية والأمنية تستدعي ذلك، والثاني مرتبط بتوجهات النظام التركي لتحقيق مكاسب جيوسياسية تعزز دوره الإقليمي والدولي من خلال الاستثمار في الصراع في سوريا”.
مع كل هذا التوضيح إلا أنه سرد المسار الواضح ذاته لتطور الحراك التركي في سوريا من خلال “بالسعي لإقناع النظام السوري بقبول فكرة الإصلاح مع الدفع لإشراك جماعة الإخوان المسلمين في حكومة جديدة، قبل انتقالها إلى العمل على تغيير النظام بتبني مطالب الثورة وتقديم دعم سياسي وإعلامي واستخباري والتجاوب مع مرحلة العسكرة بتقديم دعم عسكري غير مباشر عبر فتح الأرض التركية لمرور دعم عسكري عربي، خليجي بالأساس، ودولي ومرور متطوعين إسلاميين، والانخراط العسكري المباشر لاحقا” هذا الدور هو الذي مع الوقت انتهى إلى تركيز تركي أكثر على الخط الشمالي للحدود السورية.
في سياق يوازيه قال المحلل اللبناني يغيا طاشجيان لـ”القدس العربي” في رده على السؤال ذاته إن “هدف السياسة الخارجية التركية يدور حول احتواء الدور الكردي في شمال سوريا” في اختزال أوضح وأكثر سلاسة لتأطر الرغبات التركية في سوريا حيث وضح “بالنسبة لتركيا، فإن أي كيان كردي في شمال سوريا له روابط وثيقة بحزب العمال الكردستاني يشكل تهديدًا لأمنها القومي”. ولم يذكر المحلل في كلامه أيا من المصطلحات الصادرة عن تركيا أو حلفائها عن ان هدفها يتركز حول حماية الشعب السوري الأعزل، وتحقيق التغيير الديمقراطي في البلاد، ومحاربة الإرهاب.
بين روسيا وأمريكا
قبل خمس سنوات لم يكن أحد يتوقع ان تتقارب تركيا إلى هذا الحد من موسكو. تركيا العضو في الناتو تتعاون عسكرياً مع روسيا التي شكل الناتو لردعها. هذا التقارب بين الطرفين كان في جزء كبير منه نتاج الحرب السورية، والتضارب في العلاقات والمصالح لدى مفاعيل الحرب. أسقطت تركيا طائرة عسكرية روسية في سماء سوريا فحصلت من موسكو فيما بعد على نظام دفاع صاروخي متقدم عكر علاقاتها مع واشنطن لبرهة.
هذه التقلبات في جلها تعود إلى ما بعد معركة كوباني ودخول الروس للحرب في صف حكومة دمشق. كان تركيا تنظر إلى التنافس مع إيران والحصول على كامل الكعكة السورية مبتغاها الرئيسي. ولكن التطورات السالفة كان لها دور كبير في تقلب الموازين، وانطواء الأهداف، وهشاشة التحالفات.
وفي هذا المنحى المضطرب لتركيا بين الدولتين الرئيسيتين في الحرب السورية قال طاشجيان “بالنسبة لتركيا، فإن أي كيان كردي في شمال سوريا، له روابط وثيقة بحزب العمال الكردستاني، يشكل تهديدًا لأمنها القومي. لهذا السبب بدأت في التعاون مع كل من الأمريكيين والروس لاحتواء الأكراد في سوريا”
هذا المسار الحذر بين الطرفين عزز المخاوف لدى القوات المحلية في شرق الفرات حول مصيرها في هذه المعادلة المعقدة. اختارت الجهة المُسيرة للوضع في المنطقة بعد الهجوم المدوي على تل أبيض وسرى كاني المرونة والالتزام بالتوافقات بين تركيا وأمريكا وتركيا وروسيا لتفادي حصول انتكاسات أخرى في المشهد المتعب أصلاً.
كان الوضع أصعب بالنسبة لواشنطن التي تقدم الهدايا المجانية للروس في سوريا والمنطقة ككل من جهة تنظيم علاقتها بين قسد من جهة وتركيا من جهة. اختارت واشنطن، وبالأخص قيادة البيت الأبيض العلاقة التقليدية مع تركيا على أي شيء آخر!
في شرح أكثر تبسيطاً لهذه النقطة يقول طاشجيان “بالنسبة للأمريكيين، من الصعب تحقيق التوازن بين حلفائهم الأتراك وقسد. ليس سراً أن المصلحة الأمريكية تكمن في النفط، أي أنها لن تعارض أي دور تركي طالما واشنطن تستغل النفط السوري، في المستقبل القريب. ويضيف “لا أرى أن الأمريكيين يدافعون عن الأكراد، كما رأينا في كركوك وشمال شرق سوريا. سوف ينسحب الأمريكيون من المنطقة لصالح الروس بعد التوصل إلى اتفاق بشأن مستقبل النفط والغاز السوري” في رواية تعبر جزئيا عن التمدد الروسي الهادئ حالياً في المنطقة شرق الفرات، والذي صادف بعض المنغصات الأمريكية عندما وصل إلى حدود فاقعة مثلما حدث حينما حاولت موسكو الوصول إلى معبر سيمالكا الحدودي غير الرسمي، والمهم لواشنطن وقسد في الوقت ذاته قبل أيام.
مصير المناطق الشمالية
 يبقى مصير المناطق الشمالية من سوريا التي هي تحت يد تركيا مثار لغط لدى الجهات المتابعة والفاعلة في سوريا. التضارب بين الآراء بشأنها واضح. ولكن، هناك شبه اتفاق بين الجميع على ان محافظة إدلب هي المنطقة التي ستعود سيطرتها إلى حكومة دمشق عند وجود توافقات جديدة يعتقد الأكراد وحلفاؤهم العرب في شرق الفرات أنها قد تحدث على حسابهم.
هذه التوقعات قال عنها الكاتب علي العبد الله: “مصير المناطق التي تحتلها القوات التركية مرتبط بطبيعة الحل النهائي، مع وجود مؤشرات على توجه تركي للاحتفاظ بوجود شبه دائم في هذه المناطق عن طريق ربطها بالداخل التركي عبر التعليم والصحة والتجارة واللغة والثقافة، وهذا مبني على تقدير أن سوريا لن تستعيد عافيتها لعقود طويلة، وان النظام السوري الحالي أو المقبل لن يستطيع إدماج هذه المناطق بسهولة بسبب العجز المالي والتقني. الوضع في تلك المناطق مزر بسبب ممارسات الفصائل المسلحة التي انتشرت هناك، وأقامت سلطات أمر واقع تقتل وتطرد وتمنع النازحين من العودة إلى ديارهم، تنهب المحاصيل وتفرض إتاوات وضرائب”.
هذا الحوار هو مرافق للتغيرات على الأرض التي تشهدها تلك المناطق من عفرين إلى جرابلس إلى تل أبيض وهي في حد ذاتها مؤشرات على أن عودة تلك المناطق إلى أهلها الحقيقيين بعيدة عن المنال أقله على المدى المنظور. وفي حديث قال يغيا طاشجيان حول مصير تلك المناطق “سيتم إرجاع المناطق المحتلة في رأس العين وتل أبيض في النهاية إلى سوريا، لكن هذا يحتاج إلى دور روسي، وبدونها، أرى مستقبلًا صعبًا للغاية في شمال سوريا. تبذل تركيا قصارى جهدها لإعادة توطين القرى المحتلة بغير الأكراد من أجل إنشاء منطقة عازلة بينها والقرى الكردية في سوريا”.
وفي وضوح أكبر حول مخططات عن احتمال عودة إدلب إلى النظام السوري كجزء من التوافقات التي تقوم روسيا بلعب دور الوسيط فيها بين تركيا وحكومة دمشق، بدأت الأخبار تتحدث عن عمليات نقل مقاتلين ومرتزقة سوريين من إدلب إلى ليبيا، ونقل عوائل من إدلب إلى عفرين ورأس العين وتل أبيض. هذه التغيرات حسب يغيا طاشجيان “في رأيي أن تركيا تبذل قصارى جهدها لإرسال عناصر متطرفة من إدلب إلى ليبيا، لأنه إذا تمت السيطرة على إدلب من قبل النظام السوري حينها سيتعين على هؤلاء المقاتلين المتشددين خيارات صعبة بين الاستسلام للجيش السوري أو الهرب إلى تركيا! والخيار الأخير سيكون كارثيا على تركيا، لذا نرى كيف يتم نقلهم إلى ليبيا للتخلص منهم”.
هذه التبدلات والتداخلات في الملفات بعد التطورات الجديدة في العراق أيضأً، وزيادة سخونة المشهد الأمريكي الإيراني يدفع الأمور إلى المجهول.
خريطة نهائية للحل
يخشى سكان المناطق التي احتلتها تركيا، والمناطق التي تسيطر عليها قسد من صعوبة عودتهم إلى مناطقهم الأصلية بعد حدوث تغييرات ديموغرافية في المنطقة. هذا كله مع تصاعد التسريبات الإعلامية المقصودة عن محاولات روسية حثيثة لوضع خريطة نهائية للحل في سوريا بين كل هذه الأطراف الفاعلة، والتي تحاول روسيا كسبها لصالحها ضمن برامج الحلول الوسطية الخبيرة فيها هذه الأيام في زمن القيادة الأمريكية التي تبدل بوصلتها مع كل اتصال هاتفي، والتي يطالب فيها ترامب باستغلال كل قضية اقتصاديا على حساب القضايا الاستراتيجية الأخرى، وفي وقت تحول الغرب الأوروبي من مستعمر لما وراء البحار إلى دول تخشى من عودة بضعة أطفال وعوائل جهادية إلى بلادهم الأصلية. هذا الالتحام بين الملفات وهذه التقاطعات السياسية يدفع الجميع للتفكير بهدوء عن الحلول العقلانية والوسطية والتي تقلل الخسائر قدر الإمكان على قاعدة الحقائق على الأرض، وتقليل خطابات النصر التي لا تنتهي لدى الجميع، والتفكير في حلول تحافظ على الهويات المحلية لدى سكان مناطق تعبت من النزوح المستمر، والتشتت الذهني، والتخوف من المستقبل غير الواضح.