الرئيسة \  واحة اللقاء  \  ظلم سلميّة الثورة السورية

ظلم سلميّة الثورة السورية

13.05.2019
مصطفى الولي


جيرون
الاحد 12/5/2019
قارب العدد الأكبر من الكتّاب والصحفيين والمثقفين العرب، وبعض السوريين منهم خاصة، النجاحات المرحلية لحراك الشعبين السوداني والجزائري، بإحالة ذلك النجاح إلى الوعي السلمي للشباب المنتفض في الخرطوم والجزائر، وقدرتهم على عدم الانزلاق إلى ممارسة العنف، وبقاء الحراكات على طابعها السلمي. وغالبًا ما أشار هؤلاء الكتّاب والمثقفون إلى “العنف” الذي سارت به ثورة السوريين، وتحميله مسؤولية فشلها في تحقيق أهدافها بإلحاق الهزيمة بسلطة الطاغية. هنا يدخل مثل هذا الكلام إلى محاكمة ظالمة وقاصرة، تمس روح السوريين الذين هبّوا بصدورهم وحناجرهم يطالبون بالحرية والكرامة، لأن أصحابه يقفزون عن” الكلمات الأولى لرواية الثورة السورية”.
الأكيد أن كل مخلص للحرية في بلادنا يفتخر ويعتز بمسار الثورتين السودانية والجزائرية، وينتظر لهما المزيد من التقدم والنجاح، وصولًا إلى إعادة بناء الدولة في البلدين على أسس ديمقراطية، من دون تجاهل المخاوف من “انزلاق” الأوضاع في البلدين كليهما، إلى ميدان المواجهات الخطرة، التي يمكن أن يرتب لها الجنرالات، وربما تكون دموية.
المأخذ على من ذهبوا إلى تمجيد سلمية السودانيين والجزائريين، وتكرار الخطاب التثميني للثورتين، مع إشاراتهم المتكررة إلى أن وعي الشباب، في البلدين، هو سرّ النجاح في تجنيب الجزائر والخرطوم العنف الدموي الذي “سارت” به الثورة السورية! مما أوصل سورية إلى ما هي عليه (بقاء الطاغية، قتل مئات الألوف، تدمير المدن، تهجير نصف الشعب، تسليم البلد لأكثر من قوة أجنبية)، ومثل هذه الإشارات تتنكَر أو تجهل أن تداعيات المسار الثوري السوري، منذ أيام الحراك الأولى وانزلاق الأوضاع في سورية إلى العنف والقتل والتدمير، لم تحكمها إرادة الشعب المنتفض، ومن يراجع الساعات والأيام الأولى، حتى الأشهر الثلاثة، من عمر ثورة السوريين؛ يقف على حقيقة ما جرى في سورية منذ آذار/ مارس 2011.
إذا أردنا اعتماد بداية الثورة السورية، من كتابات أطفال درعا على جدران المدينة شعارات مناهضة للدكتاتور، وهي ليست منفصلة عن سابقة لها في تظاهرة الحريقة بدمشق التي هتف الناس فيها: “الشعب السوري ما بينذل”، وتذكرنا، ويجب أن نتذكر، كيف تعامل جهاز أمن السلطة مع الأطفال، ثم مع وجهاء المدينة، وإهانة كرامتهم والاستخفاف بمكانتهم، وهو ما زاد الاحتقان في نفوس أبناء المدينة والمحافظة، وصولًا إلى انفجار تحركاتهم بالتظاهرات السلمية المطالبة بالحرية والكرامة، وما ردّت به أجهزة مخابرات السلطة على تلك التظاهرات بالضرب والاعتقال وإطلاق الرصاص؛ فإننا نستطيع قراءة “رواية الثورة” من سطورها الأولى.
لم تكن المدن الأخرى مختلفة عن درعا، فالميادين والشوارع والساحات فاضت بالبشر المطالبين بالحرية، والمنادين بوحدة الشعب السوري المؤكدين سلمية ثورتهم. فلم تكن إحدى أيقونات الثورة، فدوى سليمان، ترفع السلاح أو تدعو للعنف، حين تصدرت مع زميلها الساروت تظاهرات حمص الكبرى، ولم يكن القاشوش في حماة يحمل سلاحًا، أو يدعو للعنف، حين عاقبوا حنجرته بانتزاعها من جسده بعد قتله، ومثله غياث مطر، حامل الورود وقناني الماء في مدينة داريّا، ليوزعها على الجنود ورجال الشرطة، وكان الرد بقتله بعد تعذيبه بوحشية. وهل أصابع الفنان التشكيلي السوري علي فرزات كانت تضغط على الزناد، أم أنها تحرِّك الريشة لإنتاج لوحات فنية؟! فقاموا باختطافه وتكسير أصابعه. وهل يصدق عاقل أن الطفل حمزة الخطيب، الذي قتلوه تحت التعذيب، كان قد شرع في اغتصاب نساء الضباط في حوران؟ والشواهد كثيرة من درعا، حتى حمص وبانياس وجسر الشغور والسويداء وحماة وكافة المدن السورية. وتشهد الصور والفيديوهات والتسجيلات المصورة على الارتكابات المبكرة لأجهزة السلطة ضد المتظاهرين المدنيين السلميين العزَّل. ذلك غيض من فيض لبدايات التجربة السورية في أيامها الأولى.
وبنظرة سريعة على مجريات الثورتين السودانية والجزائرية، مقارنة مع ما جرى للثورة السورية، سنجد الحقيقة في طبيعة السلطتين فيهما، وبنيات أدواتهما المسلحة (الجيش والأمن) ووجود هامش، وإن كان ضيقًا، للمرونة في التعامل مع الشارع المنتفض في كلا البلدين. إضافة إلى وجود أكثر من رأي، وتيار في مراكز السلطة في البلدين. ونشير إلى هذه الحقيقة، لنقف على الأسباب الجوهرية للعنف الذي أدخلت به سورية بعد الحراك الثوري، ولنتذكر أن شكل الصراع، خلال انفجار التناقضات الاجتماعية والسياسية، لا يحدده طرف لا يتبنى العنف، إذا فرض الطرف الآخر الحسم بالقوة، وفي التاريخ درس أكيد: أن الفئات الحاكمة هي أول من يلجأ إلى القوة، سعيًا للحسم ضد خصومها.
في العودة إلى سورية وبداية العنف فيها، نرى أن السلطة المتوحشة هي التي باشرت العنف، وزجت بجنود الجيش في قتل المتظاهرين، واجتياح المدن بالدبابات، والفرق الفاشية المحلية والخارجية. وأول عمليات الرد المسلح، على وحشية السلطة، جاءت من جنود وضباط رفضوا القتل وغادروا مواقعهم لدى السلطة “المنشقون”، وطاردتهم قوات الطاغية، فاضطروا إلى الدفاع عن أنفسهم، كما قام الأهالي المدنيون بالدفاع عن هؤلاء الذين رفضوا قتلهم.
لا يحتاج المرء إلى الوقائع التفصيلية ليتبين المسؤولية الأساسية عن تداعيات الصراع بين الثورة والسلطة في سورية، فلقد أعلنت دعاية النظام عن عزمها المبكر لممارسة القتل، وها هي بعض الشواهد:
أولًا: أطلقت دعاية السلطة المستبدة المتوحشة على الحراك الشعبي السلمي صفة” المؤامرة” على سورية، بينما لم يقل نظام بوتفليقة والبشير عن حراك الشعبين بانه مؤامرة. والمؤامرة لا ضير من قمعها بالقوة!
ثانيًا: أعلن رأس السلطة في سورية أن لا إصلاحات تحت ضغط الشارع. بل بعد وقف الاحتجاجات يمكن تنفيذ الإصلاحات.
ثالثًا: وصف بشار الأسد الشعب السوري الثائر بالجراثيم “في جسد” البلد، ولا بد خلال العلاج من الآلام، وأكد أن “الجراحة” هي العلاج الناجع.
على هذه الخلفية التي يمتلئ بها عقل سلطة التوحش، يمكن النظر إلى المسار الدموي للصراع في سورية. ويمكن الوقوف على حقيقة حادثتين جرتا داخل مؤسستي الجيش والأمن، الأولى: كفُّ يد وزير الدفاع الأسبق العماد علي حبيب، لأنه اقترح حصر مهمة الجيش بحماية المرافق الحيوية ومؤسسات الدولة فقط، وعدم نزول الجيش إلى الشوارع ضد المتظاهرين. والثانية: اغتيال جنرالات خلية الأزمة، وما تسرب عن آراء جزئية لهم، تتعلق “باقتصاد” العنف، خاصة في نقاشاتهم للزج بالطيران الحربي المجنح، لقصف المدن والبلدات الثائرة؛ فكان مصيرهم التصفية الجسدية.
وتجب الإشارة إلى أن أجندة سلطة بشار الدموية ضد الثورة، مورست وبدأ تنفيذها قبل حضور إرهاب القاعدة وقوى الإسلام السياسي المسلحة و(داعش)، فذلك الحضور جاء في نهايات العام 2012، على الرغم من الشكوك في ترتيب دور هؤلاء بطرق استخبارية محلية ودولية.
ما أردت قوله إن بقاء الصراع في السودان والجزائر، حتى اللحظة، بعيدًا من العنف الدموي، سببه موجود في بنية السلطتين، على الرغم من التباينات بينهما، فهما تقفان على رأس جيش وأجهزة أمن، لا يمكن الزج بهما بقتل الشعب المطالب بالحرية والديمقراطية، ويحتاج ذلك إلى معالجات تحضيرية، ليس من السهل نجاحها للوصول إلى حرب دموية ضد الشعبين الثائرين. ونتمنى أن تبقى الأوضاع في البلدين بعيدة من المسار الدموي الذي زجت به سلطة بشار السوريين، وحولتهم إلى قاتل وقتيل.
كل الفخر والاعتزاز بثورات شعوب بلادنا، وكل التمنيات باستمرار الصراع خارج دائرة العنف والقتل والتوحش.