الرئيسة \  تقارير  \  طريق روسيا من طرطوس إلى وهران: دبلوماسية السلاح والقمح والغاز

طريق روسيا من طرطوس إلى وهران: دبلوماسية السلاح والقمح والغاز

16.05.2022
إبراهيم نوار


إبراهيم نوار
القدس العربي
الاحد 15-5-2022
زيارة لافروف الأخيرة للجزائر تتجاوز حدود الاحتفال بالذكرى الستين لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين روسيا والجزائر، وتتجاوز حدود التنسيق بين البلدين في الحرب على الإرهاب، بينما تستضيف مراكش الاجتماع الدولي للتحالف ضد “داعش” وتتجاوز حدود التنسيق المشترك في سوق الطاقة العالمي، وتتجاوز حدود التعاون المشترك في التصدي لتداعيات ما بعد جائحة كورونا وحرب روسيا في أوكرانيا، كما تتجاوز تعزيز التعاون العسكري المشترك. زيارة لافروف إلى الجزائر هي نسيج متكامل من كل ما سبق في إطار تكريس المصالح المشتركة بين روسيا التي تجد نفسها في عداء غير مباشر مع الولايات المتحدة في منطقة كبيرة تمتد من بحر ازوف والبحر الأسود شمالا إلى البحر المتوسط والقرن الأفريقي جنوبا، وهي مصالح تلتقي مع ما تعتبره الجزائر تحالفا معاديا لها يضم المغرب والولايات المتحدة وإسرائيل وعددا من الأطراف الأوروبية. زيارة لافروف تضرب على الوتر الحساس في الجزائر، وتوجه رسالة متعددة المعاني إلى من تعتبرهم الجزائر خصوما لها، وتمثل لحظة كاشفة لكثافة المصالح المشتركة بين البلدين سياسيا واقتصاديا وعسكريا، كما توضح مدى التقارب بينهما على الصعيد الاستراتيجي في سياق ما تعتبره روسيا صراعا لإقصاء الولايات المتحدة من الزعامة القطبية المنفردة للعالم وإقامة نظام دولي متعدد الأقطاب، وما تعتبره الجزائر مصلحة مصيرية في تأمين حدودها الغربية، ومد نفوذها إلى ساحل المحيط الأطلسي، ومنع تسرب النفوذ الاسرائيلي الى غرب البحر المتوسط ومضيق جبل طارق.
الجزائر هي ثالث أكبر مستورد للسلاح الروسي، وتستحوذ مع الهند والصين ومصر وفيتنام على النسبة الأعظم من مبيعات الأسلحة الروسية في العالم. ومع أن روسيا ليست قوة بحرية مشهودا لها بالكفاءة والقوة من الناحية النوعية، فإن الجزائر تستورد قطعا بحرية حديثة روسية المنشأ، كما أنها تشاركها في برامج تدريب مشتركة ومتعددة الأطراف، سواء مع قيادة الأسطول الروسي الجنوبي أو الشمالي. ومن المتوقع أن تشترك الدولتان في مناورات عسكرية مشتركة قبل نهاية العام الحالي. وإلى جانب أهمية عوائدها المالية، فإن الصادرات العسكرية الروسية للجزائر تمثل أحد قنوات تأمين النفوذ. ومن الأدلة على ذلك امتناع الجزائر عن التصويت ضد روسيا وعدم مطالبتها بسحب قواتها من أوكرانيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر اذار/مارس الماضي.
ومع تصاعد الخلافات بين الجزائر وفرنسا، فإن روسيا تدخلت بترويج صادرات القمح الروسي ليحل محل القمح الفرنسي الذي كان يستحوذ على ما يقرب من ثلثي سوق القمح المستورد في الجزائر. وقد نجحت شركات تجارة القمح الروسية في اختراق سوق القمح الجزائري في السنوات الأخيرة، واستطاعت ان تحصل على حصة كبيرة منه، حيث تسيطر الآن مع الشركات الأوكرانية على ما يزيد عن ثلثي السوق. وقد ساعد على زيادة حصتها في السوق قيام الحكومة الجزائرية بتخفيض مواصفات القمح المستورد المسموح بدخوله، إلى جانب انخفاض أسعاره مقارنة بالقمح الفرنسي. ومع أن ظروف الحرب الراهنة في أوكرانيا تفرض على الجزائر ضرورة تنويع مصادر استيراد القمح، فإن روسيا تحاول ألا يؤدي ذلك إلى خسارتها لمكانتها الحالية.
وتقدر وزارة الزراعة الأمريكية احتياجات الجزائر، سادس أكبر مستورد للقمح في العالم، خلال موسم العام الحالي بحوالي 8 ملايين طن بنسبة زيادة تبلغ 10 في المئة تقريبا عن تقديرات سابقة. وطبقا للإحصاءات الروسية فإن صادراتها من القمح إلى الجزائر في تزايد مستمر منذ العام 2016. خصوصا بعد أن قررت الحكومة الجزائرية تخفيض نوعيات القمح المستورد من حوض البحر الأسود، والسماح برفع نسبة الإصابة بالحشرات الضارة مرتين منذ ذلك الوقت، لتصل حاليا إلى 1 في المئة، بدلا من 0.5 في المئة قبل ذلك، ونحو 0.1 في المئة فقط قبل السماح بدخول القمح الروسي. ومع ذلك فإن الجزائر لا تقبل القمح المستورد للغذاء الإنساني بنسبة بروتين تقل عن 12.5 في المئة، وهي النسبة الملائمة في دقيق القمح المستخدم في صناعة الخبز. وطبقا لأحدث تقديرات روسيا فإن إجمالي صادراتها إلى الجزائر بنهاية العام الماضي تجاوزت 3 مليارات دولار مقابل 2.96 مليار دولار حسب تقديرات البنك الدولي عام 2020. وإلى جانب صادرات السلاح والقمح تصدر روسيا للجزائر أيضا الوقود المعدني، وزيوت الطعام، والصلب والسلع الهندسية والأجهزة الكهربائية. وفي المقابل فإن الفواكه تمثل أهم صادرات الجزائر إلى روسيا. ويبلغ إجمالي تلك الصادرات حوالي 1 في المئة فقط من قيمة واردات الجزائر من روسيا.
وتلتقي مصالح روسيا مع الجزائر في أسواق الطاقة العالمية، على الرغم مما يبدو من مظاهر المنافسة بين الطرفين خصوصا في سوق الطاقة الأوروبي. وقد استطاعت الجزائر خلال الأزمة الحالية زيادة حصتها في سوق واردات الغاز الأوروبية إلى 11 في المئة مقابل 8 في المئة فقط قبل الحرب الأوكرانية. لكن هذه الزيادة لم تؤثر كثيرا على نصيب روسيا التي تستحوذ وحدها على ما يقرب من نصف سوق الواردات الأوروبية من الغاز الطبيعي. ويشترك البلدان، روسيا والجزائر، في ميزة إمكان تصدير الغاز الطبيعي مباشرة إلى أوروبا عبر خطوط الأنابيب المرتبطة بالشبكة الأوروبية المشتركة لتوزيع الغاز. فروسيا تزود أوروبا بالغاز الطبيعي بواسطة عدد من الخطوط الممتدة من غرب سيبيريا إلى شرق أوروبا، منها خط “نوردستريم-1” الذي يمر تحت مياه بحر البلطيق، وخط أنابيب “يامال” الذي يمر برا عبر بولندا وأوكرانيا إضافة إلى خط السيل التركي.
أما الجزائر فإنها كانت ترتبط مع شبكة الغاز الأوروبية عن طريق ثلاثة خطوط للأنابيب، أحدها يمر عبر المغرب إلى إسبانيا، وقد تم تعطيله مع تصاعد الخلافات وقطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين العربيين، والخطان الآخران هما خط غاز المتوسط الذي يصل إلى إسبانيا مباشرة تحت مياه البحر بطاقة 22 مليار متر مكعب سنويا، وخط غاز عبر المتوسط إلى إيطاليا بطاقة 22 مليار متر مكعب سنويا. وإلى جانب خطوط الأنابيب فإن الجزائر تصدر الغاز المسال إلى أوروبا وأسواق أخرى حول العالم، وهي تزيد حاليا طاقة إنتاج الغاز المسال. وتعتبر ثالث أكبر مورد للغاز إلى أوروبا.
ومن المرجح أن محادثات لافروف في الجزائر تناولت تنسيق سياسة الطاقة بين البلدين تجاه أوروبا، حتى لا تنجح الولايات المتحدة في خلق خصومه بينهما في هذا المجال ووضع كل منهما في مواجهة الأخرى، كما حاول وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن خلال زيارته للجزائر في اذار/مارس الماضي. وتشمل المصالح المشتركة بين روسيا والجزائر تنسيق المواقف بين أوبك وحلفائها بشأن السياسة الأمريكية ضد أوبك بدعوى أنها ترتكب مخالفات تتعلق بحرية المنافسة في السوق من خلال اتفاقيات تحديد الإنتاج. ولذلك فإن مصالح روسيا تلتقي مع دول أوبك عموما في ضرورة مقاومة الضغوط الأمريكية لزيادة الإنتاج لمصلحة الدول الصناعية المستهلكة وعلى حساب مصالح الدول المنتجة، وكذلك مواجهة الموجة المرتقبة من الضغوط القانونية لمحاولة تفكيك سوق المنتجين، واضعاف شركات النفط المملوكة لدول أوبك وحلفائها باتهامها بارتكاب ممارسات احتكارية وإقامة اتفاقات لتحديد الأسعار. وتتجه شركات النفط والغاز في البلدين إلى تعزيز التعاون فيما بينها، خصوصا في مجال إنشاء مشروعات مشتركة في تنمية حقول النفط والغاز وزيادة مرونة تدفق الإنتاج إلى أسواق الاستهلاك.
 
توازن القوى في المتوسط
 
تعمل روسيا بجدية من أجل إعادة بناء توازن القوى في البحر المتوسط على الرغم من ضعف وجودها الكمي والنوعي، وضيق نطاق التسهيلات الممنوحة لها؛ فهي لا تمتلك غير قاعدة واحدة في طرطوس على الساحل الشمالي الغربي لسوريا، تمثل القاعدة البحرية الوحيدة لها خارج الحدود. ومن أجل زيادة قوتها في البحر المتوسط فانها تحتاج أولا وقبل كل شيء إلى قواعد أخرى وإلى تسهيلات دائمة وشبه دائمة، تضمن تيسير حركة السفن، وإجراء أعمال الصيانة، والتزود بالوقود، وتغيير الأطقم والراحة. وقد حصلت روسيا على تيسيرات مؤقتة في بعض موانئ الساحل الجنوبي للبحر المتوسط، لكن هذه التسهيلات هي أقل من الطموحات المستهدفة. وإذا تمكنت من تحقيق ذلك من خلال تطوير تعاونها العسكري والبحري مع الجزائر، فإن بذلك تضع قدميها على أول الطريق لإعادة صياغة معادلة القوة البحرية في حوض البحر المتوسط، خصوصا مع زيادة تقاربها مع أطراف أخرى مثل تركيا ومصر في شرق المتوسط. وفي المقابل فإن الوجود الدائم للأسطول السادس الأمريكي في البحر المتوسط، الذي يشكل جزءا من القيادة العسكرية المركزية، جنبا إلى جنب مع أساطيل دول أخرى في حلف الناتو مثل فرنسا، وأنشطة الغواصات الإسرائيلية، يشكل معا تحديات كبيرة للوجود العسكري الروسي. وإذا نجحت روسيا في تعزيز قوتها البحرية في البحر المتوسط، فإن ذلك سيجيئ على حساب القوة البحرية والعسكرية الفرنسية، التي تواجه بالفعل تحديات في شرق المتوسط والساحل الأفريقي من جانب روسيا. وتعمل روسيا على تحييد مواقف بعض الدول الأوروبية المطلة على شمال البحر المتوسط أو التنسيق معها سياسيا واقتصاديا وأمنيا، مثلما هو الحال مع إيطاليا وتركيا. ويوفر المستوى الحالي من التعاون درجة أعلى من الاستقرار الاستراتيجي في حوض البحر المتوسط، وتحقيق مصالح كل من الطرفين، روسيا والجزائر، في إطار معادلة دقيقة للمشاركة المتبادلة في تحقيق وتوزيع الأرباح السياسية الناتجة عن هذا التعاون. كما يساعد على حشد مزيد من القوى بدون تمييز ضد التنظيمات الإرهابية النشطة في الساحل الأفريقي، وهي التنظيمات التي تهدد الاستقرار في شمال أفريقيا والقارة بشكل عام، على عكس السياسة التي تقودها الولايات المتحدة من خلال التحالف الدولي في الحرب على داعش الذي يستبعد الدول غير الصديقة مع واشنطن مثل روسيا والصين من الحرب العالمية على الإرهاب. ومن ثم فإن دبلوماسية السلاح والقمح والغاز لا تستهدف تحقيق مصالحها الاقتصادية فقط، وإنما هي طريق روسيا لتعزيز وجودها في البحر المتوسط، وتوسيع نطاق علاقاتها الثنائية بالجزائر.