الرئيسة \  واحة اللقاء  \  ضرورة استمرار المفاوضات السورية

ضرورة استمرار المفاوضات السورية

29.05.2017
حنا صالح


الشرق الاوسط
الاحد 28/5/2017
بالتأكيد لا بديل عن مفاوضات جنيف وآستانة بشأن التسوية في سوريا، مع أنه يستحيل وضع تصور لإنهاء هذه الحرب الأهلية بكل بشاعتها، قبل أن تتأمن الإمكانية الجدية لبلورة اتفاق – تسوية سياسية، ولكن ليس أي اتفاق، بل الصيغة التي تحوز الدعم الداخلي، ومباركة من الأطراف الإقليمية، ويتوافر لها الغطاء الدولي الكامل، وهذه الأمور هي بالإجمال غير متوافرة اليوم.
من بداية المفاوضات تغيرت الأرض السورية، وما من أمر اعتبرَ نهائياً؛ لأن ما تردد حيناً أنه الحقيقة، سرعان ما تبين أنه مؤقت، فغيرت الوقائع الميدانية الحقائق، تبعاً للتعديل بميزان القوى على المستوى السوري عموماً، وفي كلِّ ناحية من نواحي سوريا خصوصاً. وبالإجمال، فإن المتغيرات التي طرأت تباعاً على الوضع، إنما جرت بوتيرة أعلى من قدرة المفاوض السوري على مواكبتها، سواء كان معارضة أو نظاماً على حدٍ سواء.
صحيح أن النظام السوري، بتوجيه من أسياده في طهران، هو من بادر مبكراً إلى عسكرة الانتفاضة، بالإفراج المدبر عن أبرز مجموعة قيادية متطرفة عُرِفت بـ"أصدقاء صيدنايا"، وأتبع ذلك بإطلاق أعداد من مرتكبي الأعمال الإرهابية، ولاقاه نظام بغداد إلى منتصف الطريق، فأطلق المالكي سراح كثيرين من المتطرفين، فكانت النتيجة وسم الانتفاضة الشعبية بالغلو والتطرف والإرهاب، وهذا ما صبّ في مصلحة الديكتاتور السوري ونظامه وأسياده، وأدى إلى ذرّ الرماد بعيون أوساط دولية، بالزعم أن نظام الأسد يواجه "داعش" و"القاعدة" وأضرابهما، لكن الانتفاضة التي دُفعت إلى العسكرة والحرب الأهلية، واستدرجت إلى سوريا أبشع التدخلات الخارجية: بداية الحرس الثوري الإيراني وأذرعته الميليشياوية من لبنان والعراق وأفغانستان وسواها... إلى تسهيل خارجي لتدفق ألوف الإرهابيين إلى سوريا؛ ما أدى باكراً إلى تجاوز ثنائية المواجهة بين النظام والمعارضة، لتتحول سوريا اليوم مع التدخل الروسي، والتدخل التركي، والوجود الأميركي القتالي إلى حدٍ ما شرق الفرات، ومثله الإنجليزي جنوباً على حدود الأردن، إلى ميدان صراع جيوسياسي متعدد الأطراف، ولم يعد "إنجاز" النظام السوري ذا قيمة، رغم تكراره لخطابه المنفصم عن الواقع، في حين الحاصل فعلياً أن سوريا اليوم ليست التي كانت قبل عام 2011.
إن الدولة السورية اليوم ليست موجودة إلا على الخرائط، هي بالواقع توزعت مناطق نفوذ. الروس مثلاً (ومعهم النظام والإيرانيون) يهيمنون على ما أُطلق عليه "سوريا المفيدة"، أي غرب الفرات وإلى الساحل ونزولاً إلى دمشق والجنوب وضمنها "مناطق خفض التصعيد"، ونجح التدخل التركي في الشمال من جرابلس إلى الباب في منع الأكراد من وصل إقليم "عفرين" بـ"كوباني" ووصولاً إلى القامشلي، وشرق الفرات تتعزز الهيمنة الأميركية مباشرة ومن خلال "قوات سوريا الديمقراطية"، والقوات العربية التي يقودها أحمد الجربا، رئيس الائتلاف السابق، ومن خلال إعلان خطة استعادة الرقة من "داعش" وبعدها دير الزور المنطقة الاستراتيجية، بحيث سيبدأ الاحتلال الإيراني وميليشياته بضمور أكيد، ولا سيما أن المتوقع قطع كل خطوط الاتصال البري بين سوريا والعراق.
هنا تقع أزمة المفاوضات، وهي في جولاتها المتناسلة تدور بين الأطراف الأقل تأثيراً، من نظام ومعارضة، والبحث يدور عن سوريا مُتخيلة؛ لأن التحولات الميدانية متلاحقة ولا شيء بعد نهائياً وثابتاً، فكيف يمكن للمفاوضين في جنيف رسم إطار للتسوية وبلوغ الحل السياسي؟ وهذا الحل في نهاية المطاف له جوانب أبعد من سوريا، وتأثيرات أوسع مدى، وتدور بين القوى الأبرز عالمياً، الولايات المتحدة وروسيا. لكن المفاوضات بحدودها الحالية أكثر من ضرورية؛ لأنها تُعالج أحياناً مسائل تخفف من وطأة المقتلة، مثل المساعدات وبعض الحماية للمدنيين وكشف مصير معتقلين، أي بعض ما يتيح للناس التقاط الأنفاس، والأهم كونها أشبه بتدريب بالنار، قد يبلور أجوبة عن مسائل كثيرة. هو تدريب سيوفر للمفاوضين مستقبلاً الأطر والصيغ، للحكم الانتقالي، وللدستور وهو في النهاية "مربط الفرس"، حتى إن الآلية التشاورية حول المسائل الدستورية التي طرحها السيد ديمستورا، مهمة آنياً كما قيل لكسر الانسداد التفاوضي، ومهمة أساساً لتلافي "أي فراغ دستوري أو مؤسساتي في أي مرحلة زمنية من مراحل التفاوض". وإلى ما تقدم، فإن المفاوضات التي تبرز جانباً من الاهتمام الدولي بالمسألة السورية، هي منصة للمعارضة لكشف الإجرام اللاحق بالشعب السوري، وفضح الإبادة المبرمجة، التي وصلت حدّ المحرقة كما هو حاصل في سجن صيدنايا لإخفاء الآثار المرعبة. كذلك منصة فضح وكشف خطط طهران أساساً لإدامة احتلالها بوسائل أخرى، وفضح زيف الاتفاقيات الروسية المفروضة لبقاءٍ روسي طويل الأمد في شرق المتوسط..
وحتى ترسم جولات التفاوض المكوكية الأساس للبنيان الذي سيحمل يوماً الحل السياسي للأزمة السورية، فإن المعارضة، وأزعم أنها الغائب الأبرز، مدعوة بإلحاح إلى إيجاد "قيادة واعية ورشيدة" وفق رئيس الائتلاف الجديد، الذي رجّح "إدخال أعضاء فاعلين لتنفيذ استراتيجية إصلاح الائتلاف وإعادة إحياء دوره". هذا يقود إلى ضرورة إيجاد قيادة تجمع بين النضالين السياسي والعسكري للشعب السوري.
يوم أُعلن الائتلاف قبل سنوات، كان أبناء سوريا بأكثريتهم "شيك على بياض" في تأييد هذا الإنجاز، واليوم لم يعد جائزاً ألاّ يسمع المواطن السوري تقييم الائتلاف للمرحلة السابقة بـ"عجرها وبجرها"، وتقديم رؤية تجمع السوريين؛ لأن ذلك يعجل بمنح المعارضة الحضور الضروري، ويوجه رسالة مفادها أن البديل عن الديكتاتورية موجود، وأن المفاوضات الجادة حول سوريا لن تتم بعد اليوم بمعزل عن الممثل الحقيقي للسوريين.