الرئيسة \  واحة اللقاء  \  صناعة الرعب.. ماذا تفعل مجموعة “فاغنر” لروسيا من سوريا شمالًا إلى وسط أفريقيا جنوبًا 

صناعة الرعب.. ماذا تفعل مجموعة “فاغنر” لروسيا من سوريا شمالًا إلى وسط أفريقيا جنوبًا 

10.02.2021
محمد حسن


 
المرصد المصري 
الثلاثاء 9/2/2021 
لم تُوصف سوريا وأوضاعها الميدانية الآن في الأدبيات والتحليلات العسكرية كأعقد ساحة صراع دولي منذ الحرب العالمية الثانية من فراغ؛ فالبلد العريق الذي مزقته الحرب المشتعلة منذ عقد من الزمان شهد بزوغ فجر جديد لتكتيكات ميدانية مبتكرة من حروب العصابات والحروب اللا متماثلة “Asymmetric warfare”، وحتى أساليب المواجهة بين الجيوش النظامية الخمس وشبكة وكلائها المنخرطة في الصراع السوري والتي تقف على خطوط تماس مباشرة قسمت؛ بل مزقت الجغرافيا السورية إلى مقاطعات من النفوذ والخطوط الحمراء.  
من هذه التكتيكات المبتكرة، كان تفعيل نمط علاقة “الراعي – الوكيل” بين القوة (الإقليمية / الدولية) المنخرطة في الصراع وفاعل من دون الدولة “Non-State Actor” داخل بؤرة الصراع. يعمل الأخير “الوكيل” على تنفيذ أجندة “الراعي”، وذلك انطلاقًا من مشاركة الثنائي “الراعي – الوكيل” في جملة من الأهداف والأيديولوجيات والقيم الأخلاقية والمنفعة المادية المتبادلة.  
فعلى سبيل المثال نسجت تركيا وأجهزتها الاستخباراتية شبكة من التنظيمات والميليشيات المسلحة في الشمال السوري –أكثر من 25 تنظيمًا مسلحًا بعضها مرتبط بالشبكة الإقليمية لتنظيم القاعدة- تأتمر بأجندة صانع القرار في أنقرة، وتنفيذ رؤيته ومشاريعه التوسعية في الشريط الشمالي السوري بدءًا من عمليات التغيير الديموغرافي، وصولًا إلى معاونة القوات المسلحة التركية النظامية في عملياتها الرئيسية بطول جبهة تبلغ 400 كم في شمال سوريا وبعمق يصل أحيانًا لـ 40 كم. 
وإيران من جهتها باتت تنتشر عسكريًا الآن ضمن 125 موقعًا، موزعة على 10 محافظات سوريا، جاءت في مقدمتها محافظة درعا بواقع 37 موقعًا، تليها دمشق وريفها بواقع 22 موقعًا، ثم حلب بواقع 15 موقعًا. ويبلغ عدد الميليشيات الطائفية الإيرانية والمدعومة من إيران في سوريا نحو 50 تشكيلًا، وصلت أعداد عناصرها خلال عام 2017 نحو 70 ألفًا، وتقدّر أعدادهم اليوم بأكثر من 100 ألف مسلح، باعتراف قائد الحرس الثوري الإيراني “محمد علي جعفري”. ويعمل هؤلاء على تنفيذ الاستراتيجية الإيرانية في سوريا والتي تهدف في أهم ركائزها على إنشاء بنية تحتية عسكرية تخدم طموحاتها بالتحول لـ “الدولة المركز” في الإقليم. 
الولايات المتحدة، ذهبت لحجز دور الرعاية والوصاية على المكون الكردي “قوات سوريا الديمقراطية” والاعتماد عليها في حربها ضد تنظيم داعش الإرهابي، وكذا المواءمات السياسية مع كل من “سوريا – روسيا – تركيا”. 
أما روسيا، فكان انخراطها العسكري بالأزمة السورية صاخبًا أكثر من أصوات قاذفاتها المقاتلة سوخوي 24، إذ اعتمدت موسكو على التدخل المباشر في الأزمة السورية في سبتمبر 2015 بناءً على طلب رسمي من الحكومة السورية، بأنساق قتالية مختلفة الشكل والمهام، لكنها ذات فعالية كبيرة. 
ومنذ اللحظة الأولي لتحليق المقاتلات الروسية في الأجواء السورية، ووصول المستشارين العسكريين ورجالات الاستخبارات، بدا أن موسكو تعلمت الدروس الصعبة من نزهاتها العسكرية القاسية في أفغانستان والشيشان، وأن بنك الأهداف الروسي يظهر مدي التعامل مع جملة من المخاطر المرتبطة بالأمن القومي الروسي بصور (مباشرة / غير مباشرة).  
وللمضي قدمًا في تنفيذ بنك الأهداف الروسي في سوريا، لجأت موسكو إلى تفعيل علاقة “الراعي – الوكيل” كغيرها من القوي الإقليمية والدولية، ولكن اللافت في التجربة الروسية أنها جاءت على نحو جريء واكب التطور في صناعة الإرهاب من جهة، ومن جهة أخري تعقيد الميدان السوري، وجاء في ملمحين كالآتي: 
إنشاء الفيلق الخامس في درعا: وهو عبارة عن تشكيل عسكري كبير قوامه من المجموعات والعناصر المسلحة التي كانت تنضوي تحت لواء “المعارضة السورية”، ولما بدأت دمشق في تسوية أوضاع المسلحين في جنوب البلاد، انخرطت روسيا استخباراتيًا هناك، وسارعت بتشكيل “فيلق” عسكري مكون من “فصائل التسويات” المعارضة وتوظيف عدائها الطائفي مع إيران في تعزيز نفوذ وأوراق موسكو في الميدان السوري. 
 ويحظى الفيلق الخامس برعاية حصرية روسية، حيث يعمل على استقطاب المدنيين السوريين والفارين من الخدمة العسكرية الإلزامية في المناطق التي ينشط بها. وتعمل روسيا حاليًا على تقنين أوضاع المسلحين في هذا الفليق من خلال تقديم وعود بأن يكون انضمامهم إلى الفيلق مُحتسبًا من الخدمة العسكرية الإلزامية في الجيش السوري، وتسوية أوضاعهم سواء كانوا منشقين عن الجيش أو متخلفين عن الخدمة، وأن يكون انتشارهم محصورًا ضمن المنطقة الجنوبية فقط. 
الاعتماد على مجموعة “فاغنر”: على عكس المجموعات السورية المحلية الموالية لروسيا، فإن قدراتها القتالية لا تزال محدودة على خفض تكلفة الانخراط الروسي المباشر، والتصدر لمعاركه الشرسة في مناطق أكثر سخونة. وعليه؛ لجأت موسكو لابتكار نمط جديد في الاعتماد على شركات الأمن الخاصة لتنفيذ المهام “القذرة” لتجنب الملاحقة الجنائية الدولية، وخفض خسائر حملتها العسكرية التي واجهت تقريبًا جميع الفصائل المعارضة السورية.  
حيث تأسست شركة “فاغنر” في عام 2013 على يد شخصيتين مقربتين من القلب الصلب لموسكو، “ديمتري أوتكين”، وهو ضابط سابق في وحدة القوات الخاصة، وهو بمثابة مدير المجموعة الميداني. و”يفغيني بريغوجين” وهو رجل أعمال روسي مقرب من فلاديمير بوتين.  
وكان ديمتري أوتكين قد حصل في عام 2016 على وسام الشجاعة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.  وقد سُجِّلت فاغنر كشركة تجارية خاصة تسعى إلى تحقيق الربح، وتم تسجيلها في الأرجنتين، ولها مكاتب في كل من بطرسبرغ (المقر) وهونغ كونغ، ومعسكر تدريب في موسكو. 
أثارت مجموعة أو جيش فاغنر في سوريا العديد من التكهنات والأسئلة حول ماهية عمل المجموعة، وتصنيفها القانوني كشركة عسكرية خاصة أم مقاول مرتزقة، وأماكن نشاطها حول العالم، وماذا تقدم لحصيلة النفوذ الجيوسياسي الروسي؟.. وللإجابة على هذه التساؤلات يجب أولًا الوقوف على أهم حدثين مفصليين أظهرا الدور الحقيقي لهذه المجموعة. 
ثنائية “فاغنر – داعش”.. الرعب وصناعة الرعب المضاد 
على قدر التفنن في ابتكار تكتيكات تطويق المدن والبلدات من فواعل الميدان السوري، والسيطرة على الممرات والطرق الدولية الرابطة بين مختلف المناطق السورية خلال المعارك. حمل ظهور تنظيم داعش التفنن في “صناعة الرعب” والقتل بصورة من الرهبة ودفعت بالارتجاف من فكرة مواجهة التنظيم من قبل شبكة خصومه “النظامية – غير النظامية”.  
فقد أهان التنظيم الإرهابي الصاعد وقتئذ العسكرية السورية والتركية والإيرانية في المعارك التي اشتبك فيها معهم. لكن المعركة الفارقة في “صناعة الرعب” كانت في سيطرة التنظيم على مدينة تدمر السورية المهمة استراتيجيًا منتصف العام 2015. هناك نفذ التنظيم الإرهابي وعلى مسرح تدمر المصنف على قائمة التراث الإنساني باليونيسكو إعدامًا بحق 20 ضابط وجندي سوري، في مشهد دراماتيكي، سجّل المشاركة الاولي لأطفال داعش حيث نفذوا عمليات الإعدام بثبات وبدم بارد. 
لم تمضِ أشهر، حتى قررت روسيا تأمين عقدة الجغرافيا السورية مدينة “تدمر” ولما كان الثابت في الحملة الروسية هو “ألا تشتبك القوات النظامية الروسية مع تنظيم داعش بصورة مباشرة على الأرض تفاديًا لأية احتمالات لإهانة شرف العسكرية الروسية”، وقع الاختيار على مجموعة فاغنر لمواجهة تنظيم داعش، وطرده من المدينة المهمة، والتمهيد لدخول القوات الروسية والسورية فيما بعد. 
وفي هذه المعركة، لجأت مجموعة فاغنر لنفس أساليب تنظيم داعش، إذ تورطت في عمليات قطع رؤوس وتعذيب مماثلة لإصدارات داعش المرئية، بل لجأت قيادة مجموعة فاغنر لتجنيد العديد من عناصر داعش بعد أسرهم في المعارك، لتقديم معلومات تساهم في توجيه الضربات الاستباقية للتنظيم وحرمانه من الوصول لأي من القوات الروسية النظامية والاشتباك معها، حسبما أفاد عنصر سابق من المجموعة ” مارات جابيدولين” الذي كشف تدابير المجموعة السرية في مذكراته التي منعت نشرها الاستخبارات العسكرية الروسية حسبما أفادت شبكة “ميدوزا” الإعلامية. 
وبالتزامن مع معركة مدينة “تدمر” أوكلت إلى مجموعة فاغنر مهمة “تنظيف” حقل الشاعر السوري في حمص من سيطرة تنظيم داعش، وذلك بعدما استحال تحرير الحقل بواسطة المقاتلات والقاذفات. إذ حتمت ظروف المعركة ضرورة تشكيل أنساق من المشاة يقاتلون داعش بنفس وحشيته.  
وكان مقابل تنظيف الحقل، أن تحصل شركة “إيفرو بوليس” الراعية الرسمية لمجموعة فاغنر؛ على 25% من أرباح الحقل، وهو ما تحقق بالفعل في العام 2017، حيث حصلت الشركة التي يديرها ” يفغيني بريغوجين” المقرب من بوتين؛ على 162 مليون دولار نظير خدماتها. وفي معارك تنظيف الحقل، نفذت مجموعة فاغنر عمليات قتل مروعة حتى بحق المواطنين السوريين. 
وتشكلت وقتها فرقة خاصة داخل مجموعة فاغنر، لاصطياد “الدواعش” بعدما أثبتت المجموعة كفاءتها في أمرين: 
حروب العصابات داخل المدن والمناطق النائية (السهول – الصحاري). 
خفض تكلفة الانخراط العسكري الروسي، وحرمان داعش من التنكيل بالوحدات الروسية العسكرية الرسمية. 
وخاضت مجموعات من هذه القوات بالتزامن مع معارك دير الزور سلسلة مواجهات في شمال غربي سوريا في الفترة بين أكتوبر 2017 وفبراير 2018، هدفت إلى السيطرة على تقاطع محافظات حماة وحلب وإدلب، قبل أن تتعرض في فبراير من عام 2018 إلى الضربة الكبرى التي يقال إنها زعزعت وجودها في سوريا، بعدما خسرت مجموعة فاغنر مئات المقاتلين دفعة واحدة في الهجوم الأمريكي على وحداته عندما حاول الاقتراب من القوات الكردية المدعومة من جانب واشنطن، قرب حقل خشام النفطي ما أسفر عن سقوطه تحت قصف مركز من جانب القوات الأميركية. 
وكان العضو السابق لفاغنر ” مارات جابيدولين” حاضرا في هذا القصف الدموي وقرر الانسحاب من المجموعة بعدها، حسبما نقلت عنه صحيفة “ميدوزا”. 
وفي أوكرانيا 2014، حينما كانت أنظار العام تتابع أهوال الحرب السورية والتدمير الممنهج للبلد وبنيته التحتية؛ كانت فاغنر تدرب عناصر من “الانفصاليين” الموالين لروسيا. وكان التدريب على حرب العصابات. حتى أضحت بعض مناطق شرق أوكرانيا شبيهة إلى حد كبير بأحياء حمص وحلب وريف دمشق من حيث الدمار والتخريب، وتقارب أساليب الاقتتال كما يظهره التسجيل المصور التالي: 
الاتجاه للجنوب العالمي.. فاغنر في أفريقيا 
بعد النجاح في الميدان السوري والأوكراني، اكتسبت شركة فاغنر خبرة كبيرة في التعامل مع الإرهاب والبيئات العدائية، وعليه لجأت روسيا إلى تعظيم مكاسبها والانتقال نحو مناطق “الجنوب العالمي” في أفريقيا عبر شركة الأمن الخاصة، فاغنر، مدفوعة بالآتي: 
تخفيف أثر العقوبات الغربية على روسيا عقب ضم شبه جزيرة القرم والانخراط العسكري المباشر في سوريا، والعمل على تدشين خطوط غاز جديدة تصل للشرق والوسط الأوروبي “السيل الشمالي نورد ستريم – السيل الجنوبي ترك ستريم”. 
تأمين احتياجاتها من الموارد الطبيعية. 
مناوءة النفوذ الغربي في القارة الافريقية وخاصة الفرنسي. 
دعم علاقاتها الأمنية والعسكرية مع الدول الأفريقية وتوسيع دائرة تسويق منتجاتها الدفاعية. 
من هذه الدفوع، انطلقت موسكو مستخدمة أداة فاغنر، للانتشار في القارة الأفريقية ضمن عدة مستويات متباينة: 
المستوي الأول: مواجهة التنظيمات المتطرفة في البلاد، والضلوع بمهام تأمين كبار القادة، ومناوءة النفوذ الغربي وذلك في كل من ” ليبيا – أفريقيا الوسطي – موزمبيق – مدغشقر”. 
المستوي الثاني: دعم الأحزاب في الاستحقاقات الانتخابية، وذلك في كل من “جنوب أفريقيا – زيمبابوي”. حيث اتهمت المعارضة في زيمبابوي موسكو بالتدخل في الانتخابات الرئاسية 2018 وتورط الخبراء الروس العاملين في شركة فاغنر. وجاءت جنوب أفريقيا على نفس المنحى، ودعمت الحزب الحاكم في انتخابات 2019. 
وانطلاقًا من هذين المستويين نشطت فاغنر في أكثر من 23 دولة أفريقية بأنماطِ لا تتعدى المستوي الأول وتقل تدريجيًا عن المستوي الثاني في بلدان كثيرة حتي مستوي التمثيل التجاري فقط.  
خاتمة: 
الردع النووي، والردع المضاد، والتطور التقني للخصوم في سلاح الجو، والتطور المضاد في أنظمة الدفاع الجوي، وصناعة الرعب والرعب المضاد. من هذه الأضداد تنخرط موسكو في مجمل التفاعلات الدولية الاستراتيجية بعقيدتها الأوراسية التي تستند على آلة عسكرية تحقق توازن الرعب مع الخصوم. وفي نظم إقليمية مضطربة أمنيا يقل فيها احتكار الدول الوطنية للقوة الإكراهية جراء الانتشار المكثف للفواعل العنيفة من غير الدول، دفعت موسكو التهديدات عن حزامها الأمني ومنطقتها الرخوة في آسيا الوسطي، لتقاتل في أوكرانيا وروسيا وتؤسس في أفريقيا لعلاقات أمنية هي الأولى من نوعها منذ سقوط الاتحاد السوفيتي.  
لتوظف موسكو شركتها الأمنية الخاصة في كسب مزايا جيوسياسية تساعدها على الفكاك من التطويق الغربي والترصد الأمريكي لها والذي أعياها كثيرًا. ما يدفع بدوره لضرورة دراسة تداعيات هذا الحضور الروسي عبر نمط “الراعي – الوكيل” في تمدد أو انحسار الظاهرة الإرهابية في أفريقيا التي تشهد توسعًا أفقيًا للجماعات الإرهابية حتى باتت مسرحها الرئيس في هذه الأثناء، وخاصة مع تشبع التنظيمات الإرهابية بأدبيات معاداة روسيا ووجوب قتالها وتهديد مصالحها ثأرًا لما حققته في الميدان السوري من قلب موازين المعركة لصالح الحكومة السورية بعدما بدت دمشق أمام لحظة وداع للتاريخ وتفاعلات الجغرافيا السياسية.