الرئيسة \  واحة اللقاء  \  صراعات بين امبراطوريات من عصور غابرة

صراعات بين امبراطوريات من عصور غابرة

27.06.2020
بكر صدقي



القدس العربي
الخميس 25/6/2020
يمكن النظر، من زاوية معينة، إلى الصراعات الدائرة في منطقتنا بوصفها صراعات بين دول هي وريثة امبراطوريات طواها التاريخ، وتتطلع إلى استعادة أمجادها الغابرة في شروط اليوم. هذه هي حال روسيا وتركيا وإيران، وبدرجة أقل مصر. وفي الوقت الذي يهدد فيه عبد الفتاح السيسي بالتدخل العسكري المباشر في ليبيا لمواجهة التدخل التركي، لم تصدر عن القيادة التركية ما قد يكشف عن طموحات توسعية، على رغم خوضها ثلاث حروب في كل من سوريا وليبيا والعراق، ووجود قواعد عسكرية لها في عدة بلدان، مقابل تبجح قادة إيرانيين بأحلامهم الإمبراطورية في مناسبات عدة، وبهيمنتهم على أربع دول عربية، فضلاً عن خوضهم صراعات بالوكالة في عدة بلدان. كذلك لا يخفي القادة الروس طموحاتهم التوسعية وسعيهم إلى امتلاك مزيد من القوة ومناطق النفوذ.
إنه مشهد غريب، مفارق للزمان ولروح العصر، فالقوة الإمبراطورية اليوم لا تقاس بالعضلات أو بالكيلومترات المربعة، بل بمعايير جديدة، علمية ـ تكنولوجية بالدرجة الأولى، وما يتبع ذلك من قوة اقتصادية تبقى هي الحاسمة في تقرير موازين القوة بين الدول أو ربما الشركات. فهناك شركات اليوم أكثر قوة من كثير من الدول، ولا تعرف أنشطتها حدوداً جغرافية أو سياسية. على سبيل المثال شهدت بداية شهر حزيران الحالي إطلاق أول رحلة فضائية مأهولة من قبل شركة SpaceX الخاصة لصاحبها أيون ماسك الذي يعمل على مشاريع جديرة بأفلام الخيال العلمي، أولها تأمين شبكة من الأقمار الصناعية، لأغراض الاتصالات، تحيط بالأرض بصورة كاملة (42000 قمر صناعي!)، تؤمن الاتصال بالإنترنت في كل أنحاء العالم بكلفة ضئيلة، وآخرها ـ حالياً ـ بناء مستوطنات بشرية على كواكب أخرى. لا يتعلق الأمر بشخص ذي خيال جامح فقط، بل أيضاً برأسمالي يوظف ملايين الدولارات في مشاريع قد لا تعطي ثمارها إلا بعد زمن طويل.
 
القوة الإمبراطورية اليوم لا تقاس بالعضلات أو بالكيلومترات المربعة، بل بمعايير جديدة، علمية ـ تكنولوجية بالدرجة الأولى، وما يتبع ذلك من قوة اقتصادية تبقى هي الحاسمة في تقرير موازين القوة
 
لنقارن ذلك الآن بورثة الامبراطوريات البائدة المذكورة أعلاه، لنرى البون الشاسع بينها وبين ماسك من حيث الإمكانيات والخيال الخلاق والعقلانية. فلا روسيا ولا إيران ولا تركيا (ناهيكم عن مصر السيسي) تملك فائضاً من الموارد المالية والعسكرية لتمويل مشاريع التوسع الامبراطوري المتورطة فيها في جوارها الاقليمي، وبلا أي ضمانات لاسترداد ما أنفقته فيها إلى الآن. إضافة إلى ضيق أفق تلك المشاريع وانتمائها إلى عصور بائدة، بالمقارنة مع سعة أفق مشاريع ماسك التي تتجاوز الكرة الأرضية إلى الفضاء الخارجي وإلى المستقبل. أما من حيث العقلانية فإن الخيال الجامح لماسك لا يقلل من عقلانية استثماراته المحسوبة بتكاليفها وإيراداتها المحتملة، فضلاً عن طموحها الكوني الذي ضاقت به الكرة الأرضية.
ما الذي يمكن أن يضاف إلى قوة إيران على فرض أنها نجحت في استتباع دول كاملة كالعراق وسوريا ولبنان، أم أن من شأن هذا التوسع أن يشكل عبئاً إضافياً على اقتصادها الهش؟ وما الذي يمكن لروسيا أن تكسبه من توسعها نحو البحر الأبيض المتوسط وكأن تحريك الأساطيل أو بيع السلاح لبعض الدول المنكوبة سيجعلها دولة عظمى، في حين أن اقتصادها الريعي يكاد يقوم على تصدير الثروات الطبيعية والمرتزقة. وهل تظن تركيا حقاً أنها ستعوض افتقارها للثروات الطبيعية من خلال تدخلها العسكري في عدة دول نفطية، في الوقت الذي يعاني اقتصادها من مشكلات كبيرة؟
لا يقتصر الأمر في عالم اليوم على غزو الفضاء بإمكانيات القطاع الخاص أو منتجات الذكاء الصناعي أو المضي قدماً نحو نظام نقدي افتراضي عالمي (البيتكوين) يستعيد، شكلياً، نظام المقايضة، لكنه يراكم الثروات في أيدي أقلية صغيرة، بل يتعدى كل ذلك إلى الاستثمار في خلق "نوع جديد" أقوى وأكثر ذكاء وأقل قابلية للإصابة بالأمراض التقليدية، وإلى تحكم أكثر بالأفراد من خلال امتلاك المزيد والمزيد من المعلومات واحتكارها. هذه بعض من التوقعات المستقبلية القائمة على ما يجري فعلاً في المختبرات العلمية من استثمارات ضخمة، وليست مجرد سيناريوهات هوليوودية بخيال طليق.
بدلاً من التفكير والعمل لمواجهة هذه التطورات الصادمة، يغرق قادة دول مفوّتة في حسابات "جيو ـ استراتيجية" تنتمي إلى عصور غابرة، وبدلاً من الاستثمار في القوة البشرية وبالتالي في التطور العلمي ـ التكنولوجي، تنفق مواردها الشحيحة أصلاً في إنتاج أو شراء السلاح وفي خوض صراعات مكلفة وبلا أفق.
لا يحتاج الأمر إلى كثير من إعمال الفكر لتوقع المصير المحتمل للمشاريع "الإمبراطورية" المذكورة. فنحن نعرف تجربة "إمبراطورية" أخرى انتهت إلى مصير رهيب: "امبراطورية" حافظ الأسد التوسعية في جوارها القريب التي انتهت إلى ما نراه اليوم من خراب كامل. لم يكن هذا المصير حتمياً، بل كان بوسع سوريا أن تكون شيئاً مختلفاً لولا ابتلاؤها برجل ذي مؤهلات متواضعة ظن أنه قادر على قسر التاريخ بما يناسب طموحاته الشخصية المريضة.