الرئيسة \  واحة اللقاء  \  شرق المتوسط: أوراق أنقرة في مواجهة باريس 

شرق المتوسط: أوراق أنقرة في مواجهة باريس 

07.10.2020
د. مدى الفاتح



القدس العربي 
الثلاثاء 6/10/2020 
في مقابل الساحل التركي المتوسطي مجموعة كبيرة من الجزر، التي تتبع سياسياً لليونان، رغم قربها الشديد من الشواطئ التركية (كيلومترات معدودة). يخلق هذا إشكالات حدودية حول أحقية البلدين في الاستفادة من الموارد، ففي حين ترى تركيا أن الأحقية لها، لأن تطبيق قانون ومعاهدة البحار والمياه الإقليمية، يعني أن تكون عملياً غير مستفيدة من إطلالتها البحرية الواسعة، ترى اليونان أن امتلاكها للجزر يعني امتلاكها الحرية الكاملة في استغلال خيرات المنطقة. 
البحث عن أسباب التعقيد الحدودي، سينقلنا إلى مناقشة تاريخية تتتبع الأيام الأخيرة للسلطنة العثمانية، بعد أن أجبرت على تقليص حدودها )اتفاقية لوزان 1923) مقابل السماح لها بتكوين دولة وطنية. التاريخ سيكون دائماً حاضراً في العلاقة المتأزمة، التي تتمظهر في موضوع الحدود البحرية، ولكن أيضاً في القضية القبرصية وقضية الأقلية اليونانية المسلمة. 
في مقابل ذلك نجد أن فرنسا، بسبب علاقة التنافس مع تركيا، حوّلت نفسها لجزء من الخلاف، بعد أن تدخلت مساندة لليونان، ناظرة للأمر كاعتداء يستوجب الرد. بهذا تحول شرق المتوسط، لساحة جديدة للصراع التركي الفرنسي، جنباً إلى جنب مع مساحات أخرى في افريقيا، وفي غيرها من مناطق النفوذ الفرنسي التاريخي. 
ورغم علمانية نظام الحكم في الدولتين، إلا أن المسألة العقدية، تبدو حاضرة في السياسة الداخلية والخارجية لكل من فرنسا وتركيا، فالأولى كانت تظهر نفسها، رغم علمانيتها الراسخة، كمدافعة عن المسيحيين، كما أن الرؤساء المتعاقبين لم يكونوا يتعاملون بحياد، حينما يتعلق الأمر بالديانة الإسلامية، وقد ظهر هذا في تصريحات الرئيس ماكرون المتتالية، التي كان آخرها حديثه عما سماه "أزمة الإسلام". 
في المقابل فإن الخطاب التركي الرسمي، غير منفصل عن الدين الإسلامي، كما ظهر على سبيل المثال في ربط الرئيس أردوغان، بين استعادة آيا صوفيا وتحرير القدس. بسبب روحها الكاثوليكية كانت فرنسا من أهم الرافضين لدخول تركيا النادي الأوروبي، كما كانت من أهم المحذرين من تعاظم الدولة التركية، التي انتقلت بين عقدين من الزمان من دور التابع إلى دور الفاعل والمتحدي. المتابع للإعلام الفرنسي يلحظ حالة غير مسبوقة من التحشيد والتصعيد المتزامن، مع التصعيد الرسمي الذي وصل مرحلة التلاسن والتحذير العلني بين الرئيسين. رغم ذلك فإن دخول الطرفين في حرب تقليدية كان على الدوام مستبعداً. الخيار الأكثر واقعية كان محاولة كل طرف استغلال أوراقه الاستراتيجية، من أجل إخضاع الآخر، وإجباره على الاستسلام. تبدو فرنسا لأول وهلة قوية استراتيجياً، فمن الناحية الإعلامية ومن ناحية السيطرة على المجموعة الأوروبية، خاصة إذا تم جذب أو تحييد ألمانيا، تبدو صاحبة ورقة رابحة مقابل تركيا، التي تظهر مأزومة اقتصادياً ومعزولة إعلامياً، بسبب انخراطها في كثير من الخلافات عبر محيط عمقها الاستراتيجي. 
بإمكان الحلف الفرنسي، إذا تكوّن، أن يفعّل على سبيل المثال آلية عقوبات أوروبية مؤلمة، قد تتوسع إذا انضمت دول من خارج أوروبا لهذا المعسكر. هذه الفرضية كانت رائجة خلال الأسابيع الماضية، لحد تعويل أصحابها على القمة الأوروبية التي عقدت نهاية الأسبوع الماضي، لكن القمة انتهت من دون التوافق حول أي نوع من العقوبات، أو التصعيد، رغم محاولة الضغط الفرنسية واليونانية. مشكلة تلك الفرضية هي أنها تجاهلت حقيقة أن تركيا جزء أصيل من حلف الناتو، بل إن جيشها من بين الأقوى فيه، فيكفي أن تهدد بتعليق عضويتها، حتى يشعر الجميع بالاهتزاز. 
 
الشراكة مع الأتراك استراتيجية لأوروبا وأمريكا، لكن الدوائر اليمينية النافذة تدفع باتجاه تبني وجهة النظر اليونانية المدعومة من فرنسا 
هذه الحقيقة سبق أن أجبرت الولايات المتحدة نفسها على التوقف عن سياسة الضغوط والعقوبات تجاهها، خاصة حينما اعتبرت أن التواجد التركي مفيد لمواجهة أطراف أخرى في سوريا وليبيا. يتذكر الأمريكيون أن إحجام الحلف عن التعاون العسكري مع الأتراك، أدى إلى اتجاه أنقرة إلى وجهات أخرى كالصين وروسيا، حتى وصل الأمر لامتلاك منظومة أس 400 الصاروخية الروسية، كبديل لصواريخ الباتريوت. 
ما تزال تركيا تملك خيار التعاون مع الروس والصينيين في مجال البدائل الحربية، سواء لاستكمال استقلالها الدفاعي، أو للتوجه للتصدير وفتح أسواق منافسة في افريقيا وغيرها من أنحاء العالم. 
الطلاق مع الأسرة الأوروبية، أو الأطلسية ليس خياراً مفضلاً، لذلك تحاول تركيا التحرك وفق خطوات مدروسة، من دون تردد في تقديم تنازلات، كما حدث حين أعلنت وقف التنقيب في المناطق ذات الصلة وسحب سفينتها، حدث ذلك رغم أن اليونان كانت تتعاقد على شراء مزيد من الأسلحة من حليفها الفرنسي، وتتجه إلى الاستفزاز عبر العمل على تسليح الجزر القريبة من الحدود التركية. خطورة الضغط الأطلسي على تركيا والتكتل الناشئ والمعادي في شرق المتوسط، تكمن في أنه قد يقودها للانضمام للحلف المقابل غير المعلن، والذي يمكن التوافق معه حول مبدأ رفض الهيمنة الغربية، كما يمكن لتركيا أن تدعم بدائله الاقتصادية الطموحة المطروحة، التي من بينها تعزيز التعامل خارج مظلة الدولار والتنسيق الجماعي تجارياً وعسكرياً لدخول بعض الأسواق بعد تأمين الممرات البرية والبحرية. 
حالياً تبدو علاقة تركيا بذلك الحلف البديل، الذي يضم بشكل أساسي روسيا والصين، والذي يمتد ليشمل مجموعة واسعة من الدول، جيدة، فهي تعتبر شريكاً لكل تلك الدول، وعضواً فاعلاً في مشاورات تحرير التجارة وفتح الحدود والربط عبر إحياء مسارات طريق الحرير وغيره. بإمكان العلاقة أن تتطور أكثر إذا ما كان هذا الحلف هو الخيار الوحيد، بل قد تساعد تركيا روسيا في أن تتواجد بكثافة أكثر في المتوسط نكاية في الأطلسيين، وهو ما لوحت به عبر الدعوة لمناورة عسكرية متوسطية مشتركة مع الروس. بالعودة إلى طرح العقوبات الأوروبية، فإن هناك أيضاً سؤالا يطرح نفسه حول الموقف الأوروبي. من المعلوم على سبيل المثال أن ألمانيا، ورغم أن خطابها الإعلامي يبدو متماهياً مع الخطاب الفرنسي، إلا أنها من الناحية السياسية تبدو أقرب للتهدئة، ويبدو صوتها الذي يدعو للتفاوض وتحكيم الدبلوماسية عقلانياً، أما بقية الدول الأوروبية فهي مشغولة بالبحث عن مصلحتها الوطنية، في ظل التصدع الذي يعيشه الاتحاد، حيث ترى مجموعة كبيرة منها أن لا مصلحة فعلية لها في مقاطعة تركيا أو محاولة عزلها. 
علينا أن لا ننسى هنا عامل الهجرة، الذي يجعل كثيرين يترددون في خوض حرب مفتوحة مع الأتراك، الذين باتوا يستطيعون إغراق القارة بالمهاجرين، سواء من المقيمين على أراضيها، أو من خلال المساعدة على فتح الطريق لهم عبر المسار الليبي، على الرغم من انقسام الموقف الأوروبي والأطلسي، إلا أن فرنسا تابعت بجد تحريضها لكل من اليونان وقبرص، ما قاد لمحاولتهما فرض الأمر الواقع، وسعيهما لترسيم الحدود مع كل من مصر والكيان الصهيوني بالتزامن مع المناورات العسكرية المشتركة بين كل من اليونان وفرنسا وقبرص والكيان. 
قد يشكل الموقف الأمريكي الذي يبدو الآن أقرب للمراقب، عاملاً حاسماً لترجيح كفة أحد الطرفين. الرئيس ترامب يشيد من جهة بأردوغان، لكنه يؤكد على أهمية شرق المتوسط وضرورة الاستفادة من موارده، وصولاً إلى الطموح المعلن بقطع الطريق على الغاز الروسي. على الرغم من استعادة الهدوء، إلا أن الصراع لم ينته بعد. الشراكة مع الأتراك استراتيجية لأوروبا وللولايات المتحدة، لكن الدوائر اليمينية النافذة تتشارك في الدفع باتجاه تبني وجهة النظر اليونانية المدعومة من فرنسا ومن حلفاء آخرين أيضاً.