الرئيسة \  واحة اللقاء  \  شرقي الفرات بين مقاولين

شرقي الفرات بين مقاولين

12.10.2019
بكر صدقي


القدس العربي
الخميس 10/10/2019
عاد العالم إلى اللهاث وراء تغريدات دونالد ترامب، بين مساء الأحد وصباح الاثنين. تغريدات صاحب "الحكمة الفريدة والاستثنائية" على ما وصف ترامب نفسه في إحداها، قلبت عالم السياسة عاليه سافله، ليس بسبب تلك الحكمة المزعومة، بل لأنه صاحب القرار الأول في أقوى دول العالم اقتصاداً وقوة عسكرية ومقدرات علمية – تكنولوجية، صادف وقوعها بين يدي رجل قد يتصف بكل شيء ما عدا الحكمة، ولا سبيل لتوقع قراراته أو كلامه. تركيا المبتهجة بالحصول على الضوء الأخضر من ترامب باجتياح مناطق في شرقي نهر الفرات، غاضبة من تهديده بـ"تدمير اقتصادها". كرد "قوات سوريا الديمقراطية"، بالمقابل، يشعرون بالخذلان من ترك ترامب لهم لقمة سائغة أمام الجيش التركي، وبالاستياء من حديثه عن الأموال والمعدات العسكرية التي منحها لهم، يعللون النفس بتغريدته اللاحقة التي امتدحهم فيها وأنكر تخليه عنهم، ويستعيدون شيئاً من الشعور بالأمان من تهديد ترامب لتركيا "إذا تجاوزت الخطوط المرسومة".
أي محاولة لتحليل حصيلة التغريدات الترامبية بشأن شرقي الفرات، مصيرها الاضطراب والفشل. من الأفضل إذن أن نحاول تحليل حصيلة موازين القوة في القرار الأمريكي، بين نزوات ترامب، ومقاومة "المؤسسة" التي تشمل، إضافة إلى وزارة الدفاع، الكونغرس بحزبيه الجمهوري والديمقراطي اللذين اتفقت غالبيتهما على مقاومة قرار ترامب بالسماح لأنقرة باجتياح شرقي الفرات.
تقول هذه الحصيلة، إلى الآن، ما يلي: انسحاب نحو خمسين عسكرياً أمريكياً من المنطقة الحدودية قرب تل أبيض ورأس العين. وليس انسحابا عسكريا أمريكيا من الأراضي السورية (2000 جندي) كما يريد ترامب إرضاءً لناخبيه. امتناع وزارة الدفاع الأمريكية عن فتح المجال الجوي أمام حركة الطيران التركي، من خلال وقف التعاون الاستخباري والتنسيق الجوي. من شأن هذا الوضع أن يعقد مهمة القوات التركية أو الفصائل السورية المسلحة المؤتمرة بأمرها في غزو المنطقة. فإذا حلق الطيران التركي، برغم ذلك، فوق الأراضي السورية في المنطقة المستهدفة، فهي معرضة للإسقاط. أما برياً فمن المحتمل أن يؤدي غياب الغطاء الجوي إلى خسائر كبيرة في صفوف القوات المهاجمة. هناك "حدود" مرسومة لأردوغان من قبل ترامب، حسب تغريدته التهديدية، لا نعرف ما هي. هل هي حدود جغرافية أم تتعلق بالأهداف العسكرية أم بعمليات تهجير قسري محتملة للسكان أم جميعها معاً؟ الثمن المطلوب من تركيا مقابل الضوء الأخضر: تحمل المسؤولية عن معتقلي تنظيم الدولة (داعش) الموجودين الآن لدى "قوات سوريا الديمقراطية". وما يعني ذلك من وضعهم في سجونها ومحاكمتهم أمام محاكمها، وتحميل تركيا المسؤولية عن احتمال تسربهم. ينظر ترامب إلى الموضوع، كعادته، نظرة مقاول، فلا يتحرج من الشكوى من الأموال التي أنفقتها الولايات المتحدة على قوت "قسد" أو على تكاليف اعتقال عناصر داعش، فلا يرى النتائج المحتملة لسحب قواته من سوريا، أو حتى السماح لتركيا باحتلال قسم من الشمال السوري، أو إضعاف حليفه الميداني (قسد). تلك النتائج التي حذر منها معارضو قراره في الكونغرس، كاستعادة داعش زمام المبادرة، أو إفساح المجال أمام إيران للتمدد في الفراغ الذي سيلي أي انسحاب أمريكي كما يريد ترامب، أو تحقيق موسكو لهدفها في السيطرة على كامل الوضع السوري.
 
كان التدخل العسكري التركي الأول في منطقة "درع الفرات" هدية روسية لتركيا مقابل تسليم حلب في مسار سيقود أنقرة إلى المشاركة في آلية "آستانة" مع موسكو وطهران
 
ترى هل يختلف أردوغان كثيراً عن ترامب في عقلية المقاول في تناوله لموضوع غزو شرقي الفرات؟
هناك هدفان معلنان للعملية العسكرية المرتقبة، وفقاً للبروباغندا التركية: هواجس الأمن القومي وإراحة تركيا من عبء اللاجئين السوريين. أما الهدف الأول فهو يحتاج إلى كثير من البخور الإيديولوجي ليصبح مقنعاً. فمتى شكلت "وحدات حماية الشعب" الكردية خطراً يهدد الأمن القومي لتركيا؟ فمنذ سيطرتها على المناطق ذات الكثافة السكانية الكردية، صيف العام 2012، بتنسيق مع النظام الكيماوي، لم تقم "الوحدات" بأي عمل عدائي ضد تركيا، باستثناء بعض قذائف مدفعية على المناطق الحدودية رداً على هجمات تركية. وواظب صالح مسلم، الرئيس السابق لحزب الاتحاد الديموقراطي، على إعلان نوايا حسنة تجاه الدولة التركية، كما زار العاصمة أنقرة أكثر من مرة بناء على طلب السلطات التركية. بالمقابل، قامت تركيا بتوجيه فصائل مسلحة سورية للهجوم على مناطق سيطرة "الوحدات" منذ العام 2012، بما في ذلك جبهة النصرة التي هاجمت رأس العين في 2012 و2013.
الواقع أن التحالف الأمريكي ـ الكردي في سوريا، بمناسبة الحرب الدولية ضد داعش، هو ما دفع الحكومة التركية إلى المطالبة بتدخل عسكري في مناطق سيطرة "الوحدات"، وكان ذلك بمناسبة معركة كوباني 2014، حيث تضاربت الأهداف التركية والأمريكية للمرة الأولى بشأن سوريا. ففي حين وجدت إدارة أوباما في المقاتلين الكرد حليفاً ميدانياً ضد داعش راحت تزودهم بالسلاح والعتاد، امتنعت تركيا عن المشاركة في التحالف الدولي ضد داعش ورأت في "وحدات الحماية" عدوها الرئيسي في سوريا. وكان التدخل العسكري التركي الأول في منطقة "درع الفرات" هدية روسية لتركيا مقابل تسليم حلب في مسار سيقود أنقرة إلى المشاركة في آلية "آستانة" مع موسكو وطهران. في حين كان التدخل الثاني في منطقة عفرين مقابل سقوط الغوطة الشرقية في يد النظام. أما عملية شرق الفرات المتوقعة اليوم، فسوف تكون مقابل إنهاء الوضع التركي الملتبس في إدلب وتسليمها لنظام الأسد.
أما والمنطقة المستهدفة الآن هي منطقة نفوذ أمريكية، لا روسية، فقد كانت أنقرة بحاجة لمبرر إضافي من شأنه إقناع زبائن كثر ممن لا تعني لهم "المشكلة السورية" إلا لكونها مصدراً للاجئين، أي الدول الأوروبية بصورة خاصة. لذلك طرح أردوغان مشروع الفيلات من طابقين ذات الحواكير لزراعة الخضار، فضرب أكثر من عصفور بحجر واحد. من جهة سحب ورقة عبء اللاجئين من يد المعارضة التركية، ومن جهة ثانية أرخى "بوابة" اللجوء إلى أوروبا لكي تتحمس الحكومات الأوروبية لمشروع "حي الفيلات"، ومن جهة ثالثة استثمر حساسية ترامب الإيجابية تجاه تناول السياسة بعقلية المقاولات، ومن جهة رابعة ينطوي مشروع الإسكان على وعود وردية لقطاع الأعمال التركي الذي يمر بركود، ومن جهة خامسة استجاب لنزعات عدائية في البيئة العربية في سوريا تجاه مشاريع حزب الاتحاد الديمقراطي التي ترى فيها نزوعاً انفصالياً.
لو كان الموضوع يتعلق فعلاً بهواجس أمنية لاكتفت أنقرة بالاتفاق الذي أبرم مع واشنطن، في شهر آب، حول "المنطقة الآمنة" التي لن تعود آمنة، بعد الانسحاب الأمريكي منها.