الرئيسة \  واحة اللقاء  \  شاهد عيان على الهزيمة

شاهد عيان على الهزيمة

11.06.2017
حلمي الأسمر


العربي الجديد
الخميس 8/6/2017
(1)
يُؤرّخ تاريخ العرب الحديث بتاريخ معاركهم في فلسطين، وهو تاريخٌ حافلٌ بالانتكاسات والنكبات، ولعل قمة الكوميديا السوداء أن "نحتفل" ببلوغ النكسة الكبرى من العمر خمسين عاماً، بحفلة نهش مازوشية للحوم بعضنا بعضاً، وإعلان الحرب الشعواء على المقاومة الفلسطينية، وكل ما يمت بصلة لفلسطين، وفتح الأحضان للصهاينة، وفتح الأجواء لاستقبال طائراتهم، وإغلاقها أمام طائرات "الإخوة" بتهمة دعم هذه المقاومة.
في أسوأ أحلامنا سوءاً، لم نكن نتخيل أن نصل إلى مثل هذا الدرك، خصوصاً، نحن الذين عشنا الهزيمة، وتجرّعنا مرارتها قطرة قطرة، وكنا شهود عيان عليها.
(2)
... في دفتر النكسة عن اليوم التالي لحرب الساعات الست نقرأ:
سرت في الجبال معلومات تقول إن اليهود يدعون السكان إلى العودة إلى بيوتهم. كان المخيم موحشاً كمقبرة.. مررنا ببعض الجثث الآدمية المنتفخة. كثير من أبواب البيوت مُشرَّعة تقول إن اللصوص مرّوا من هنا. كان ثمّة أناس "أشفقوا" على مقتنيات أهل المخيم "الثمينة" من أن تقع في أيدي اليهود، فآثروا الاحتفاظ بها لأنفسهم، حتى لا تتحوّل إلى أسلاب وغنائم في أيدي العدو.
"صفحة من دفتر الهزيمة، ويبدو أنها أقل سواداً من الصفحات التي سنتلوها أو سنكتبها، عن يوميات العرب الجدد"
وصلنا إلى البيت، كان بلا باب. وكانت الأشياء داخله منثورةً هنا وهناك، وكان ثمّة قطة ماتت غرقاً في زير الماء، أما أرنبتنا فقد أصيبت بشظية في قدمها. وكذلك كان شأن النباتات البيتية التي كانت تحرص عليها أم الفتى.. لقد تيبست بعد ستة أيام من العطش والغياب.. والهزيمة.
وكان أول ما طلب الحاكم العسكري الجديد من "رعاياه" أن يفعلوا: رفع الرايات البيضاء على البيوت، وأغلب الظن أن الدافع وراء هذا الطلب ليس إعلان الاستسلام الذي كان لسان حاله يغني عن لسان مقاله، ولكنها الرغبة في الإذلال ليس أكثر، ويذكر الفتى أن بعض البيوت لم تجد خرقاً بيضاء لرفعها، فبادرت إلى رفع مزق من سراويل الكهول، أو أجزاء من ملابسهم الداخلية.
مكثنا حبيسي البيوت أياماً، بدأ الحكم العسكري خلالها بممارسة مهام السيادة، ولعل أولها كان استقطاب الجواسيس، أو قل ربما استيعابهم وإعدادهم، فلا أظن إنه واجه مشكلةً حقيقيةً في الاستقطاب، بل في الإعداد والاستيعاب، وكانت أكثر مهماتهم سرعة ارتداء "أكياس الخيش" مع ما تنطوي عليه هذه المهمة من احتقار وقذارة.
بدأ الحكم العسكري بجمع الرجال البالغين فوق سن 15 أو 16 في ساحة المركز الأمني الذي بناه الإنكليز، ودفع الجموع كي يمرّوا من أمام "كيس الخيش" البشري، حتى إذا مر شخص مشبوه على وجه من الوجوه أومأ "الكيس" إيماءاته المتفق عليها، ليؤخذ هذا "المشبوه" إلى حيث التحقيق والتدقيق وعمل اللازم.
ولم يتسن لي شخصياً المرور بهذا الاستعراض، لكنني طالما سمعت الكبار يتحدّثون عن الكيس، ومن يقف يرتديه، وغالباً ما عرف الكثيرون هوية المتخفي بالكيس فاتقوه.. وتجاهلوا إنهم كشفوا هويته.
وشيئاً فشيئاً، بدأت الحياة تعود إلى سابق عهدها، وبقي منع التجول مفروضاً من مغيب الشمس إلى مغربها.. وظل هذا النمط سائداً إلى وقت طويل.
مرت فترة توجس وانتظار، نشط فيها الحكم الجديد في الإعلان، بشتى الوسائل، إنه حكم مسالم، لن يتعرّض لأحد بسوء، ما لم يبادر هذا الأحد إلى فعل ما يناهض الاحتلال. وكان الدرس الأول الذي تعلمه الجميع إن الاحتلال لا يخشى من الكلام مهما كان حادّاً، بل إنه ليس معنياً به على الإطلاق، المهم أن لا يتطور هذا الكلام إلى عمل، أما الثرثرة فلا قيمة لها.
كان هذا الدرس جديداً على القوم الذين اعتادوا أن لا يقولوا شيئاً مهماً (أو هكذا يحسبون)، إلا إذا تلفت أحدهم يُمنة ويُسرة.. ولكم كان للكلام هيبةٌ قبل هذا الحكم الجديد، حيث يذكر الفتى أن الحكايات كانت تدور، في زمن مضى، همساً في الليل خصوصاً، وكان المتحدثون يصمتون، إذا ما سمعوا وقع خطىً في الأزقة، ولكم رأى الفتى والده أو أحد إخوته، وهو يستمع إلى إذاعة صوت العرب تحت اللحاف.
(3)
هذه صفحة من دفتر الهزيمة، ويبدو أنها أقل سواداً من الصفحات التي سنتلوها أو سنكتبها، عن يوميات العرب الجدد، وتفننهم في التمرغ في وحل الاستسلام للعدو، ومحاربة كل عرقٍ حي حر في أجسامهم.