الرئيسة \  واحة اللقاء  \  سيناريو آخر لسورية

سيناريو آخر لسورية

09.05.2017
مرزوق الحلبي


الحياة
الاثنين 8/5/2017
بالتأكيد كانت أمام سورية خيارات أخرى غير الذي حصل، وباتجاهات مغايرة. هذا ليس من علوم الغيب بقدر ما هو أفق فتحته المعارضة منذ انضمّ الشعب السوري إلى شعوب أخرى في المنطقة في السعي إلى الكرامة وتحرراً من الاستبداد والفقر وخذلان المصائر. لكنْ هناك مَن يُصرّ لضيق أفق أو عقيدة أو إيمان بغيْب علماني، على أن ما حصل كان ينبغي أن يحصل وأنه عين الصواب. على الأقلّ في عيون النظام الأمني.
لكن لنتخيّل أن الأمور سارت منذ نهاية السنة الأولى مثلاً باتجاه قبول تام من النظام لمطالب المتظاهرين وشعارات تلك المرحلة: الحريات وتداول السلطة وتوزيعها والمواطنة ودولة المؤسسات وما يتبعها من رزم حقوق وتغليب الوطن على نظامه والدولة على حكّامها. ولنتخيّل أن الأمور تطورت من تلك اللحظة ناحية تمدين الدولة وإشراك فئات الشعب كلها في الحكومة والسلطة ضمن نظام ديموقراطي انتقالي يؤسّس لسورية جديدة. ولنتخيّل أن غالبية الشعب السوري انضوت تحت هذه السيرورة لثلاث سنوات تبعتها انتخابات حرّة. ولنتخيّل أنه تمّ الحفاظ ضمن هذا الخيار على المؤسسات وشرعية الدولة ومنظومات تدبير الأمور وشبكات البُنية التحتية والحاضرة السورية... لنتخيّل أن النظام، ومن ورائه عرّابوه الأجانب، قبِل بهذا الخيار وساهم في تجذّره وتحوّله رويداً رويداً إلى نُظُم وترتيبات وإجراءات على الأرض. لنتخيّل أن خيار المصالحة الوطنية هو الذي اختاره كل الفُرقاء في الوطن السوري، وأن النظام رأى مصلحة الوطن والمجتمع فوق مصلحة الطائفة والطُغمة! لنتخيّل أنه لم يُطلق رصاصة واحدة على المتظاهرين ولم يعتقل أياً منهم، وقبل فكرة الانتقال بسورية إلى مرحلة جديدة مع تضحيات من جانبه في مركزها تقاسم الحكم والسلطة والموارد مع بقية الشركاء في الدولة...
لو حصل هذا لوفّر علينا النظام وعرّابوه الخارجيون كل هذا الدمار والتقتيل. لو سارت الأمور بهذا الاتجاه، بتفاصيل كهذه أو أخرى، لما انكشفت طائفية وعبثية ودموية وجمود أناس كثيرين وأطر وحركات وعقائد. لو أن النظام سار بهذا الاتجاه لما استطاعت القوى الخارجية أن تنفذ إلى قلب ســورية وتعطّل عمله.
بمعنى أنه كان بالإمكان الذهاب في الخيار المدني المفتوح على سيناريوات متعددة أقرب إلى المنشود أو أبعد قليلاً. لكن النظام، مسنوداً بحلفائه الإقليميين والدوليين، اختار لسورية السيناريو الذي لا يزال حاصلاً حتى كتابة هذه السطور. وهو خيار قائم أساساً على تهميش الناس والمجتمع وتطلعاته ومصالحه للمصلحة الإقليمية التي لا تتطابق في أقلّ تقدير مع مصالح المجتمع السوري إن لم تكن تتناقض معها.
ولأن الأمر على هذا النحو، انتقل القرار والحسم في الملفّ السوري من أيدي الشعب السوري وقواه إلى جهات خارج سورية. بمعنى أن الفجوة التي اتسعت بين منطلقات الثورة في بداياتها وما حصل، وكذلك السيولة التي طرأت على الوضع، أتاحتا للنظام وحلفائه أن يُنفذوا مشروع الانقلاب على الثورة وبنجاح مِن خلال ضخّ المزيد من العُنف كنقيض لـ "المدني" الذي بثّته الثورة في البدايات ثم تنازلت عنه مُضطرة، وكفعل مناقض لعنف السلطة في المراحل الثانية والثالثة.
كان يُمكن سورية أن تذهب في خيار مدني لو أن النظام أراد ذلك بصفته القابض على مفاصل الدولة والمالك لها وللمجتمع. ما صعّب ذلك أيديولوجيا النظام أولاً، ومن ثم جملة عوامل جدية وحاسمة على رأسها مصالح الحليفين الرئيسين للنظام، إيران وروسيا.
الآن، وفي هذا المكان من السرد، يُمكننا الادعاء وبكثير من المنطق أنه لو بقيت الأمور سوريةً (حسمنا منها مصالح إيران أولاً وروسيا ثانياً، وهي مصالح مباشرة أو مصالح تكتيكية لتحقيق مصالح استراتيجية أبعد) لكان يُمكن السيناريو المدني أن يحصل بصيغة ما! أقول هذا لتأكيد مسألة الإرادة الجماعية لمجتمع ما وقواه المتنفّذة. وهي مسألة كنّا نتوقع أن تعمل وتخطط وتفكّر وتدرس، لكنها تعطّلت. تعطّلت أساساً لأنها لم تكن مؤسسة كفاية، إذ النظام كان صادرها في شكل شبه كامل على مدار خمسة عقود ومنع أي تمايز بين نظام ودولة ومجتمع. ثم تعطّلت بحضور إرادات كُبرى إقليمية ودولية. وهذا التعطيل المزدوج أطلق العنف على مداه مع احتفاظ النظام الأمني بحصة الأسد منه من حيث قوة التدمير والتقتيل التي اعتمدها ومن حيث بُنيته وإمكاناته وخياراته المفتوحة على أشكال لا نهائية من القمع وصولاً إلى استعمال السلاح الكيماوي في كل منعطف تعثّرت فيه عملياته ومشاريعه الميدانية.
نُشير إلى سيناريو آخر لسورية ومسار آخر لشعبها أمام ما تحجّر وما تبلّد من عقائد توكيداً لثقافة سياسية انتكبت بفشلها في البحث عن البدائل الاستراتيجية الممكنة. نُشير إلى ذلك في ظلّ ثقافة سياسية لا تفهم الاستراتيجي إلا كجزء من لُغة عسكرية. وهذا مناسب لثقافة حكم ودولة لا تقوم على الحداثة بصفتها منظومات ودساتير وإجراءات تضمن الحريات وسلطة القانون والمساواة أمامها ودولة المؤسسات ورسمية عمليات الحكم كلها. مُناسب لثقافة سياسية ترى النظام مركز الدولة والكون وليس المجتمع. من هنا، بدأت الأزمة ومن هنا تطوّر مسارها.