الرئيسة \  واحة اللقاء  \  سورية ومقص التقسيم الناعم

سورية ومقص التقسيم الناعم

26.07.2017
عبير بشير


الايام الفلسطينية
الثلاثاء 25/7/2017
لا يمكن تجاهل حديث رجل بموقع رئيس الاستخبارات الأميركية السابق مايكل هايدن، عن أن الحدود التي تم ترسيمها في معاهدات فرساي وسايكس بيكو بعد الحرب العالمية الثانية، قد بدأت مرحلة الانهيار، وأن خريطة الشرق الأوسط أخذت تتغير.
حديث لا يمكن تقييمه على أنه مجرد وجهة نظر، فهو تصريح لمسؤول رفيع لأقوى جهاز استخبارات عالمي، وهو ليس فقط يمتلك معلومات دقيقة وعميقة عن حالة الإقليم، بل أن دولته تنخرط مباشرة في إعادة تشكيله. مايكل هايدن قال بالنص الصريح: "سورية لم تعد موجودة، العراق لم يعد موجوداً، ولن يعود كلاهما، لبنان يفقد الترابط، ليبيا ذهبت منذ مدة….. وهذه كلها ليست استنتاجات، بل قواعد– حكمت وستحكم المرحلة القادمة. وعندما يتكلم هايدن عن أن سورية والعراق، ذهبتا ولن تعودا، فهو يعني أنه لم يعد هناك وجود للدولة الموحدة، بل مجموعة من الدويلات الطائفية والعرقية بصيغ مختلفة. تصريح مايكل هايدن عن ذهاب سورية للأبد، ليس ببعيد عن قنبلة نائب وزير الخارجية الروسي في وقت سابق عن الحل الفيدرالي كمخرج للأزمة السورية، وتواطؤ وزير الخارجية الأميركية آنذاك جون كيري مع هذا المقترح بالقول: سورية يمكن أن تحكم تحت نوع من الفيدرالية الإدارية، وهذا لا يعني أنها دولة غير كاملة السيادة، وإن هذا يختلف عن تقسيم البلاد إلى مناطق ذات حكم ذاتي. الإدارة الترامبية الآن تقترب وتنخرط أكثر في مسار التقسيم الناعم لسورية، على قاعدة أن سورية الموحدة التي عرفناها قد انتهت، ويتم افتتاح ورشة هادئة لتقطيع سورية إلى مناطق نفوذ وقواعد عسكرية بين القوى الإقليمية والدولية، سواء عبر مسار آستانا والاتفاق الذي انبثق منه لإقامة المناطق الأربع لخفض التصعيد، أو مسار ترامب – بوتين والذي أدى إلى التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في مناطق الجنوب الغربية السورية التي تشمل القنيطرة والسويداء ودرعا ومناطق البادية السورية وصولا إلى نقطة التنف المعبر الحدودي مع العراق خلال اللقاء الذي جمع الرئيسين على هامش قمة دول العشرين في مدينة هامبورغ الألمانية. المصالح الأمنية الإسرائيلية كانت حاضرة بقوة في المحادثات الأميركية الروسية الأخيرة من أجل تأمين منطقة هادئة جنوب الأراضي السورية تمتد مساحتها حوالي 30 ميلا شرقي الجولان المحتل وصولا إلى محافظة درعا ومروراً بمحافظة السويداء، ومنع إيران والميليشيات التابعة لها من التحرك والعمل ضد إسرائيل في هذه الرقعة. ما دفع نحو هذه الخطوة هو خشية موسكو من تدهور الجبهة الجنوبية السورية ومن انخراط إسرائيلي أوسع ومباشر فيما يدور في سورية والذي من شأنه بعثرة كل الأوراق ونسف كل الخطط الروسية في هذا البلد. وتحدثت صحيفة "نيزافيسيمايا غازيتا" الروسية، حول هذا الاتفاق قائلة: تكونت وجهتا نظر متناقضتان إزاء هذه الخطوة، الأولى بأن الاتفاق أضفى شرعية على الوجود العسكري الأميركي في سورية، ووضع الأميركيون جنوب سورية تحت "سلطتهم القانونية والأمنية، ويشبه هذا الاتفاق وإلى حد ما اتفاقية يالطا عام 1945. وكما كان عليه الحال في الحرب ضد ألمانيا النازية قبل سبعين عاما، حيث من دون أن يبذل الأميركيون مجهودا حربيا كبيرا في سورية، تمكنوا ببراعة دبلوماسية من "القفز إلى المقطورة الأخيرة"، لجني ما أمكن من المكاسب الجيوسياسية . كما أن هذا الاتفاق يشكل انتكاسة لسياسات طهران، حيث أنه يحول دون أن تهاجم إيران وميلشياتها محافظة درعا بالتنسيق مع قوات النظام السوري لاستعادتها والاقتراب من حدود الأردن أو لاستعادة كامل القنيطرة لبلوغ الحدود مع إسرائيل.
وهذان الهدفان بالغا الأهمية في الإستراتيجية الإيرانية، سواء للعبث بأمن الأردن أو بالأخص لإشعال جبهة الجولان. أما وجهة النظر الثانية فتشير إلى عكس ذلك، وتؤكد أن الاتفاق هو مكسب في سلة موسكو ودمشق، حيث تم استبعاد مطلب الرحيل الفوري للرئيس الأسد، وقد جاء على لسان وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون بأن الأسد باق ولكن لفترة محدودة إلى الانتخابات العامة. وترى وجهة النظر الثانية أن التغيير في الموقف الأميركي الذي كان يصر دائما على رحيل الأسد دون قيد أو شرط كان بمجمله تنازلا أميركيا، فرضه الواقع العسكري على الأرض. وعلى كل حال، موسكو يهمها التفاهم مع واشنطن حول سورية وهي معنية استراتيجيا بهندسة مستقبل سورية. ولقد رسم القيصر بوتين بحد النار والسكين خطا أحمر من موسكو إلى الشاطئ الدافئ على البحر المتوسط السوري، وباشر القيصر بوتين بتحويل إرث القاعدة العسكرية السوفياتية – التي فرضتها حاجة الرئيس حافظ الأسد لحماية نظامه العلوي من أي ثورة داخلية، إلى نفوذ كامل على 20% من الأراضي السورية – وهي المساحة الأكثر حيوية واستراتيجية بالنسبة لموسكو - سورية المفيدة – حيث عزز الجيش الروسي حضوره في الجو والبر والبحر في محافظة اللاذقية وشاطئ طرطوس ومطار حميميم قرب القرداحة، وهذا يعني نشوء دويلة علوية بحماية روسية كاملة نزولا إلى دمشق ومرورا بحماة وحمص. ولعب الروس ويلعبون الدور المحوري في رسم حدود توزّع النفوذ والقوى. حيث قايضوا مع الأتراك شرق حلب بحدود حملة درع الفرات في الشريط الشمالي الحدودي السوري! ويفعلون ذلك الآن مع الإيرانيين وميلشياتهم، بحيث أنّ ابتعاد جماعة إيران عن حدود المنطقة الجنوبية وكل ما يعنيه ذلك، يقابله السماح لها بإتمام ما كانت بدأته في بلدة القصير قبل أربع سنوات، وإحكام السيطرة على كل الشريط الممتد من الساحل السوري شمالاً إلى تخوم جبل الشيخ جنوباً. وفي الوقت نفسه، تسعى الإدارة الترامبية إلى تحقيق أهدافها الاستراتيجية من وراء تعاونها مع روسيا في الملف السوري وهي: تحرير الرقة من داعش، وضمان مصلحة إسرائيل الاستراتيجية، وقطع الطريق على مشروع الهلال الإيراني الممتد عبر العراق وسورية إلى لبنان. لكن الأهمّ العمل على إخراج إيران من وراثة داعش في سورية بأي طريقة من الطرق حتى لو تطلب الأمر شراكة مع موسكو. ولكن ماذا عن الموقف التركي من التقسيم، أنقرة قد تكون على استعداد للمساومة على كل شيء، باستثناء قيام دويلة كردية محاذية لحدودها في شمال سورية تحت مقص التقسيم، ومن تحول الجنوب التركي إلى إقليم متمرد، أو جزء من الحالة الكردية الناشئة على مستوى الإقليم.
هذا لا يشكل خطرا استراتيجيا على أنقرة، بل خطرا وجوديا. تركيا التي انقلبت على نفسها في تعاملها مع الأزمة السورية وقدمت تنازلات كثيرة على حساب فصائل المعارضة، لا تستطيع التنازل أو التهاون في المسألة الكردية مهما كلفها الثمن، وهي سعت وتسعى لإحباط أي مشروع لدويلة كردية أو في أسوأ الأحوال لتكبيل أي كيان كردي بكثير من القيود لمنعه من التحوّل إلى دولة. غير أنه ومع كل ذلك يسير مشروع الكيانية الكردية حجرا فوق حجرا وبتواطؤ أميركي، وقد أكّد وزير الدفاع الأميركي أن واشنطن ستستمر في تسليح الأكراد حتى بعد تحرير الرقّة ردّاً على الرئيس التركي الذي قال إن الأميركيين أبلغوه أنهم سيسحبون الأسلحة التي وفّرها الأميركيون لمقاتلي "حزب الاتحاد الديمقراطي" بعد انتهاء الحرب على الإرهاب. ويرى المراقبون بأن المعركة القادمة هي معركة الخرائط، والتي سيخوضها المتقاسمون عبر وكلائهم السوريين لتحريك حدود مناطق النفوذ، توسيعاً أو تضييقاً، فالتقاسم لم يُحسم بعد.