الرئيسة \  واحة اللقاء  \  سورية رهن التصفيات النهائية

سورية رهن التصفيات النهائية

30.05.2019
هوازن خداج


جيرون
الاربعاء 29/5/2019
مع تسخين منطقة الشمال السوري، على إيقاع اختراق آخر مناطق خفض التصعيد وانهيار اتفاق سوتشي، يزداد التخبّط الدولي إزاء تصفية ما تبقى من معضلات. فالتصعيد في إدلب يحظى بأهمية خاصة ومختلفة عن بقية المناطق السورية التي استعادَها النظام السوري وداعموه، باعتبارها المرحلة الأخيرة في سلسلة إجراء التفاهمات لإنهاء الصراع، الذي لا يعني -بأي حال من الأحوال- الوصول إلى التسوية المنتظرة، بل إيذان للدخول في مرحلة جديدة من تعقيد الحسابات لكافة الأطراف الدولية والإقليمية، وما ستسفر عنه سيكون جزءًا من ترتيبات مستقبلية لدولة ما تزال قيد التفصيل والتدوير.
التسوية السورية التي صارت هي الحلّ شبه المؤكّد للمعضلة السورية، أسفرت عن المراوحة في المكان في مفاوضات أستانا 12، بتاريخ 26 نيسان/ أبريل 2019، إن كان لناحية تشكيل اللجنة الدستورية، أو وقف التصعيد العسكري لروسيا والنظام على إدلب، بحجة رفض “هيئة تحرير الشام” تنفيذ بنود اتفاق سوتشي، ومنها تسيير الدوريات التركية الروسية المشتركة، وسحب جميع مقاتليها من المنطقة العازلة على الرغم من إعطائهم مهلة أشهر إضافية، بعد 15 من تشرين الأول/ أكتوبر لسحب هذه القوات، وفق ما نص الاتفاق الموقّع بين الرئيسين التركي والروسي بتاريخ 17 أيلول/ سبتمبر 2018، والذي يصعب على تركيا منفردة أن تنفّذه في حدود الإطار الزمني المقرر. فالمنطقة تحتوي الآلاف من المقاتلين مختلفي التوجّهات والمشارب العقائدية بين معتدل ومتشدّد وأكثر تشدّدًا، والعصيّة على الاندماج مع باقي الفصائل، ناهيك عن الاختلافات المناطقية الناجمة عن تهجير حوالي 20 ألف مقاتل إلى إدلب من باقي المناطق السورية. الأمر الذي خلق واقعًا من الفوضى الأمنية في المنطقة.
اتفاق سوتشي كما اتفاق مناطق خفض التصعيد، لا يبدو مُلزمًا للجانب الروسي الذي تنطلق حساباته، أولًا وأخيرًا، من تأمين قاعدته العسكرية في مطار حميميم، ومن الحصول على ضمانات استمرارها التي تبدو واضحة في تأرجح موقفه من كافة الملفات، ومحاولته احتواء جميع الأطراف واللعب في الوقت نفسه على إدارة المتناقضات، كونه يحتفظ بعلاقات دبلوماسية شبه ثابتة، مع جميع الدول المشاركة في النزاع السوري، ومنها تركيا و”إسرائيل” وإيران، ما يؤهله للمراوغة مع الجميع، دون أن يخفي قلقه من الوجود الأميركي في شرق نهر الفرات، حيث الثروات النفطية والغاز والمياه، أو عدم رضاه عن التحركات الأميركية ودعمها للتوجهات الكردية بالحكم الذاتي، أو التقارب الأميركي – التركي، بشأن إنشاء منطقة آمنة تشرف عليها تركيا، لا روسيا، إضافة إلى تضرره من الحصار الاقتصادي على النظام والتلويح الأميركي بمزيد من العقوبات.
روسيا تعتبر نفسها الضامن الأساسي ليس للنظام فحسب، بل للدولة السورية ككل، خصوصًا مع حجم الاستثمارات الاقتصادية المستقبلية التي أخذتها، وآخرها عقد تأجير ميناء طرطوس لروسيا مدة 49 عامًا، بحسب ما أعلن نائب رئيس حكومة روسيا الاتحادية “بوريسوف”، وتَسلُّم شركات روسية إعادة تأهيل البنى التحتية لمطار دمشق الدولي وتوسيعه وزيادة قدرته الاستيعابية الصغيرة. كل ذلك قبل أن تقدّم “خريطة طريق” تامة ونهائية للحلّ، فهي تعرف أن بوابة الحلول ما زالت رهنًا بتوافقها مع واشنطن التي تركّزت جهودها مؤخرًا على حماية شركائها في شرق سورية، والحدّ من النفوذ الإيراني فيها، ومعاقبة الحكومة السورية اقتصاديًا لخنقها، ولا تزال تبدي التزامها بإخراج العملية السياسية من مسار أستانا إلى مسار جنيف تحت قيادة الأمم المتحدة، وإنه لا إعادة إعمار في غياب عملية سياسية حقيقية، بحسب البيان المشترك لحكومات (فرنسا وألمانيا وبريطانيا وأميركا) في الذكرى الثامنة للثورة. والتي على ما يبدو تخضع لإمكانية الدحرجة والمقايضة أو التصعيد.
وهو ما بدا واضحًا في لقاء وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو مع الرئيس بوتين، ووزير خارجيّته سيرجي لافروف، في مدينة سوتشي الروسية في 14 الشهر الجاري، والتي رفعت الآمال الروسية بإمكانية تحسين العلاقات بين الجانبين. فروسيا تعتزم استعادة علاقات كاملة مع أميركا، بحسب تصريح الرئيس بوتين. وأميركا تريد من روسيا عدم دعم الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، والابتعاد عن الصين، والتعاون في المسائل المتعلقة بكوريا الشمالية وإيران، للحفاظ على الاستقرار الاستراتيجي.
تصريح بومبيو بأن العقوبات المتعلقة بأوكرانيا ستظلّ قائمة، يجعل من الملفّ السوري مجالًا للمساومات، وعلى روسيا الاستجابة للمطالب الأميركية في القضايا المتعلقة بسورية، وأهمها الوجود الإيراني. فتصريح بومبيو بأن أميركا لا تريد الحرب مع إيران، يتناقض في واقع الحال، مع تزايد التحركات العسكرية الأميركية في المنطقة، ودعمها لقاعدة “عين الأسد” بالعراق، وتعزيز قواتها المتمركزة عند الحدود العراقية السورية لمواجهة النفوذ الإيراني، خصوصًا مع نهاية المعارك ضد تنظيم (داعش) في الباغوز، التي تعدّ الخط الفاصل بين (قسد) المدعومة أميركيًا، والميليشيات الإيرانية التي تسيطر على مدينة البوكمال. فواشنطن لن تترك إيران وأذرعها مطلقة اليدين في سورية، وهي عازمة على قطع الممر البري الإيراني نحو المتوسط الذي تعهّدت طهران بتدشينه. والرئيس ترامب اتخذ قرارًا حازمًا بشأن إيران، من خلال محاصرة نشاطاتها سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا، والرسالة لإيران واضحة، في ما يخصّ مسألة وجودها العسكري والأمني الذي تلاقت عليه المصالح الروسية والأميركية والإسرائيلية والعربية، وعدم الاستجابة الإيرانية سيضع سورية أمام خطر تحوّلها إلى ساحة حرب في حال المواجهة بين أميركا وإيران.
الحدث السوري بكافة تفاصيله ما يزال مُلتبسًا بين المعنيين بما يجري في سورية، خصوم النظام كما الحلفاء. حيث إن الملفات المتشابكة لا تشي بنيّة قريبة للحلول، وإنهاءُ الحرب ما زال متعلقًا بالعديد من القضايا الشائكة، وعلى رأسها مسألة الوجود الإيراني الذي يصعب معرفة مآله. فإيران ما تزال الشريك الأساس للنظام وليس روسيا، ولها مصالحها في سورية، وتوصّلت مؤخرًا إلى اتفاق بإدارة ميناء اللاذقية، ولها علاقتها الاقتصادية القوية مع تركيا، وهي شريك في أستانا وفي اللجنة الدستورية.
كما يتطلب إنهاء الحرب الوصول إلى ترتيب منطقة الشمال السوري، بكافة تعقيداتها وتشابكاتها، بين كافة الأطراف: (الروسية، التركية، والتركية)، والجانب الكردي، وكذلك (الروسية- الأميركية) التي تحمل صراعًا متعدد الأوجه بالنسبة للطرفين، كالدور التركي في مُجمل منطقة الشمال ومن ضمنها إدلب، والوجود الإيراني في منطقة الجزيرة ووضع حدّ له، وصولًا إلى الجنوب السوري، وأمن “إسرائيل” وأجندتها ورهاناتها المركّبة في المنطقة الجنوبية حصرًا.
درب التسوية المفترضة والوفاق الدولي، لتنفيذ القرار 2254 وفق مسار جنيف كما ترغب واشنطن، لم يجرِ تعبيده بعد، وتضارب المسارات والمصالح وتقاسم مناطق النفوذ الاستراتيجي والاقتصادي حاليًا ولاحقًا في إعادة الإعمار، ما زال رهنًا بالتصفيات النهائية بين القوى المتدخّلة في الصراع السوري. فكل شيء خاضع للترتيبات الإجرائية القابلة للتعديل، بحيث يبدو الثابت الوحيد في سورية هو تغيّر السياسات وتبدّل التحالفات، وانفتاح مجالات الصدام، ومع كل تغيّر وتبدّل يدخل السوريون مرحلة أخرى من دفع الدماء ثمنًا لأي معطى جديد على مساحة وطنهم.