الرئيسة \  واحة اللقاء  \  سوريا.. من الإخلاء إلى الاستقلال 

سوريا.. من الإخلاء إلى الاستقلال 

20.04.2021
حازم نهار



المدن 
الاثنين 19/4/2021 
أقام النظام السوري في 16 نيسان/ أبريل الجاري احتفالًا بمناسبة جلاء فرنسا عن الأرض السورية، في القاعدة الروسية في (حميميم)، وألقى وزير الدفاع كلمة شكر فيها القيادة الروسية على "اللفتة الغنية بالمعاني والدلالات"، بحسب تعبيره، ورأى أيضًا أن "الجلاء الأكبر" هو القضاء على الإرهاب في سورية وخروج "المحتل الدخيل، ولا سيما المحتل الأميركي والتركي". في المقابل، قال وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، في اليوم ذاته "إن العملية العسكرية في سورية ساعدت الجيش الروسي على رفع الروح المعنوية وفحص الأسلحة واتخاذ خطوة نوعية في التطور". كلام الوزيرين معبِّر حقًا عن تفكير ووضعية كل منهما؛ وزير يسعى لطمس المعنى الجوهري لعيد الجلاء والتمسّح بمحتلٍّ جديد، وآخر يجيبه بأن بلدك ليست أكثر من ساحة أجرِّب فيها أسلحتي!  
أثار هذا الحدث كثيرًا من السخرية والاستهجان، وهذا طبيعي، في صفوف عددٍ من المعارضين والموالين، بنسب متفاوتة. كان الاحتفال بالنسبة إلى بعضهم استهزاءً روسيًا بسورية وأهلها وبِعيدِها الوطني، في حين كان بالنسبة إلى بعضهم الآخر احتفالًا من محتلٍّ جديد بذكرى طرد محتلٍّ آخر. السؤال هنا: هل يتوقع أحدنا أن احتمال سخرية السوريين من احتفال الروس بعيد الجلاء السوري في قاعدة (حميميم) لم يكن واردًا في حسابات وتوقعات النظام السوري؟ على العكس، يعلم النظام أن هذا سيحصل، لكنه لا يهتم به ولا يعنيه. هي رسالة مثل رسائل أخرى عديدة سبقتها بالطريقة ذاتها، خلاصتها "موتوا بغيظكم.. أنا من أحدِّد معاني الوطن والوطنية والاستقلال والسيدة والصديق والعدو". 
لكن، ربما يكمن السرّ أيضًا في التصريح اللافت والمعبِّر، والمثير للشفقة أيضًا، لوزير الخارجية السابق، وليد المعلم، في عام 2014، عندما قال: "من يريد الاعتداء على سورية لا يوجد لديه مبرِّر إلا بالتنسيق معنا...". أراد الوزير أن يخبرنا آنذاك أنَّ لا مشكلة لنا مع من يضربنا ويعتدي علينا بموافقتنا، مشكلتنا هي فيمن يضربنا من دون موافقتنا؛ بمعنى آخر: أخبرنا أنك ستضربنا وأهلًا بك في بيتك. هذا مفهوم جديد للسيادة الوطنية لم يخطر في بال أحد. 
كثيرًا ما استخدم النظام السوري مسألة الشرعية لتصدير خطابه وممارساته. فعلى الرغم من أن شرعيته الداخلية تحطمت، ولم يبق منها إلا النذر اليسير، بعد أن ضاقت كثيرًا قاعدة مواليه، إلا أن الشرعية الخارجية لا تزال في حيازته كاملة. فعلى الرغم من مقاطعة دول كثيرة له، خلال العقد الماضي، إلا أن الاعتراف القانوني به في الأمم المتحدة لا يزال قائمًا، وهذه الشرعية القانونية دجاجة لا تزال تبيض ذهبًا وفضة لمصلحته حتى على مستوى الداخل السوري؛ فاستنادًا إليها، وانطلاقًا منها، تصبح مواقفه وسياساته كلها طبيعية ومبرَّرة، ووطنية، مهما بدت متناقضة أو مثيرة للسخرية.  
تتغير التعابير والمعاني السياسية للنظام، بحسب الأهداف والمصالح في كل لحظة، فإذا طلب النظام العون من أميركا أو تقاطعت مواقفه، في لحظة ما، مع مواقفها، فهذا يُدرج تحت اسم التنسيق مع المجتمع الدولي؛ في 24 أيلول/ سبتمبر، إبان هجوم التحالف الدولي/الأميركي ضد تنظيم (داعش)، خرجت علينا صحيفة "الوطن" السورية بعنوانٍ عجيب، "واشنطن وحلفاؤها في خندق واحد مع الجيش السوري لمكافحة الإرهاب". وفي محطات أخرى، يكون اسم واشنطن وحلفائها "أطراف المؤامرة الكونية"، لذلك، كان منطقيًا وقتها الاستنتاج أن "أطراف المؤامرة الكونية"، أميركا وإسرائيل وغيرهما، والنظام السوري وجيشه في خندق واحد. وعندما يبني النظام علاقات مع دول الخليج، يُوصف الموقف هذا بالموقف "الحكيم"، وعندما يعاديها أو تعاديه، يستدعي تلقائيًا تعابير على شاكلة "أهل النفط والغاز" و"البدو" و"الوهابية" و"الرجعية" و"العملاء". 
هناك "سيادة وطنية" مفصلة على مقاس النظام الاستبدادي؛ فحتى لو جاءت كل الدول والقوى إلى سورية، ستبقى السيادة الوطنية موجودة ما دام النظام باقيًا. في الحقيقة، الاستبداد هو أول وأهم انتهاك للسيادة؛ لأن جوهره يتناقض، أصلًا، مع المفاهيم الوطنية جميعها، وأهمها مبدأ سيادة الشعب، إذ لا سيادة وطنية، حيث لا يكون الشعب حاضرًا وحرًا وسيدًا، ولا معنى للسيادة الوطنية عندما يكون الإنسان مهدورًا، وعندما لا تُصان حقوق المواطن، ولا معنى لها عندما يكون حصر أسماء الدول أو الجماعات التي لم تتدخل في الشأن السوري أسهل من حصر الدول التي انتهكتها. في اختصار، إن انهيار مفهوم الوطنية السورية في الداخل مقدمة طبيعية لانهيار السيادة الوطنية إزاء الخارج.  
كانت ممارسات النظام، قبل وبعد الثورة السورية، تصبّ دائمًا في تحطيم السيادة الوطنية، حتى لم يبق لهذا التعبير أي معنى، إن في الداخل أو إزاء الخارج. وقد عبر النظام السوري عن تشوهاته السياسية أيضًا في طبيعة القوى السياسية التي تعارضه، لأن تحطيمه للقواعد السياسية الوطنية البديهية هو المولِّد الرئيس لولادة معارضات وقوى وفصائل مشوهة هي الأخرى، تكيل بمكاييل عديدة في مواقفها إزاء التدخلات الخارجية القائمة، إذ من الصعب العثور، في الواقع الراهن، على موقف متماسك لأي جهة سياسية، من البداية إلى النهاية، في ما يتعلق بأدوار الدول الإقليمية والكبرى في سورية؛ موقف يرتكز حقًا على الوطنية السورية. ظهر جليًا عدم وجود موقف ثابت ضد التدخل الخارجي؛ فكل جهة تريد تدخلًا يتوافق مع تصوراتها أو مصالحها أو أوهامها، أو تريد تدخلًا من دولٍ، أو جهاتٍ، دون غيرها.  
قرأت ذات مرة أن أحدهم لم يعرف معنى كلمة (الجلاء) إلا في مرحلة متقدمة من عمره، ربما في الجامعة، وهذا ليس غريبًا في ظل عملية التجهيل التي مارسها النظام السوري طوال عقود. الاستقلال مفهوم أعم وأوسع من مفهوم الجلاء، فهذا الأخير ليس له من معنى سوى "الإخلاء"؛ أي إخلاء الأرض السورية من المحتلِّين. لكن عمومًا ينبغي لمفهوم الاستقلال الثاني المنشود أن يكتسي معنى إضافيًا اليوم، عن طريق ربطه بحقوق المواطن وسيادة الشعب، ما يعني ارتباطه الوثيق بالمسألة الديمقراطية، وبسيرورة بناء الجمهورية الثالثة، بعد جمهورية الاستقلال الأول التي لم تكتمل، وجمهورية الاستبداد التي أدت في الحصيلة إلى تشظّي الوطن والدولة والمجتمع والمواطن.