الرئيسة \  واحة اللقاء  \  سوريا بين كماشة مثلث

سوريا بين كماشة مثلث

02.01.2019
مها محمد الشريف


الشرق الاوسط
الاثنين 31/12/2018
بات العبث بمستقبل سوريا لعبة فاضحة لا يدخل الزمن في مفهومها، فالتناغم الروسي - الأميركي وتوزيع الأدوار أصبح العمل به على المكشوف، وظهر جلياً في الانسحاب الأميركي المفاجئ من سوريا الذي أعقبه ترحيب روسي، مع منح الأتراك دوراً في تقزيم طموحات الأكراد.
بينما تريد روسيا استكمال السيطرة على أراضي سوريا شكلياً حتى تنتقل لمرحلة تسوية سياسية تفرضها بالتفاهم مع أميركا غير واضحة، لا شكلها ولا لونها، ولا كيف ستكون طبيعة النظام الذي سيحكم سوريا مستقبلاً تحت وصاية روسيا ورضا أميركا، ومباركة إسرائيل.
على هذا النحو قامت تركيا بتعزيزات عسكرية من الآليات والقوات الخاصة وناقلات الجنود والدبابات إلى مواقع قواتها على جانبي الحدود مع سوريا، والأكثر من هذا تعاطف نتنياهو إسرائيل مع حزب العمال الكردستاني وأطلق عليهم "الإخوة الأكراد" وسيمهد الطريق أمام قواته للدخول بعدما فشل التقسيم المتفق عليه.
فبديهي إذن يكون الضلع الثالث للمثلث هو روسيا التي ستُبقي قواتها في سوريا رغم الانسحاب الأميركي ويشهد هذا التناغم الروسي والأميركي قاعدتين أميركيتين؛ قرب الحدود مع سوريا والأخرى قرب حدود الأردن، بمعنى أن أميركا تريد أن تصبح العراق مركز عمليات لها بالمنطقة لمواجهة الإرهاب وإيران، وقد طمأن الجميع لافروف بأن الوجود العسكري التركي في إدلب متفق عليه ولسان حاله يقول: لا تخشوا رحيلنا، سنبقى معكم، فالأرض تتسع لنا ولكم ولأميركا وإيران وتركيا وإسرائيل.
بل ينبغي أن يصرخ ضمير العالم في وجه التدخلات الممنهجة، وعلى بشار سوريا تأمين شروط حياة لائقة يشرّعها لبلاده وشعبه، هذا إذا سلمنا كأمر بديهي بوجود قرار سياسي، وإغلاق الطرق أمام القرارات الأخرى الدخيلة، ولكننا مرغمون على أن نستنتج من الوقائع ما يجب بذله من جهود لسرد سلسلة أحداث جسام، فقد كان القسم الأكبر من نصيب الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، الذي أعلن عزم بلاده على شن عملية عسكرية جديدة في المنطقة، لا شك أنهم على هذا النحو يتخذون هذا الانسحاب نقطة بداية لأولئك الذين يحيطون بسوريا، وسيكون الأمر غاية معطاة تحدد جوهرياً المشروع العثماني من خلال أرض الشام.
بعدما قررت الولايات المتحدة التمهيد له بسحب قواتها من شمال سوريا، فأتاحت الفرصة لأنقرة ومنحتها متسعاً من الوقت لترتيب أوراقها بعد استكمال الانسحاب الأميركي، والمسافة هنا ليست جغرافية بل تاريخية لتلك الأحداث المترابطة، وتتجلى باستمرار الخيارات العربية عبر فتح سفاراتها في دمشق وتفعيل دورها من جديد، وتحتاج إلى تحرك أسرع وأوسع نطاقاً لتعزيز فرص السلام، وتعتبر خطوة تقارع التنسيق التركي - الأميركي لتفادي فراغ في السلطة الذي يقلص تلك المسافة، لأن الظواهر نفسها تحدث إذا اندلعت حرب من النمط نفسه، كما يرويها المجتمع التاريخي.
بعدما حدد جاويش أوغلو عن الجانبين الاتفاق لاستكمال الشروط بشأن مدينة منبج السورية، وقد ترجمت إلى لغة بسيطة تتوافق مع استكمال الانسحاب الأميركي فما عساه يكشف أكثر من ذلك، لا سيما أن يقضي الاتفاق بخروج وحدات حماية الشعب الكردية التي تعتبرها الإشكالية الأساسية لهذه الطريق، التي وصفوها بالجماعات العابرة للقوميات، بل اعتبرتها أنقرة إرهابية، تهدد الجزء الأعظم من تركيا.
ومن الأهمية بمكان إذا فسرنا هذا التقارب بين أنقرة وواشنطن بأنه ضمن "الناتو"، وما تشكله قاعدة إنجرليك من أهمية لقوات أميركا بكل تحركاتها بالشمال، ولكنه تقارب المصالح الذي يفرض مواقف أكبر من إطلاق سراح القس الأميركي أندرو برونسون في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، ويفضي بنا هذا إلى المسألة المتصلة بما يقع خلف الكواليس، وهو يعزو إلى الشيء الكبير لثمن خدمة سياسية أسدوها لبعضهم.
بوسعنا أن نضرب مثالاً حيادياً هو حماية الشعب الكردي الذي تركته واشنطن لإطلاق يد تركيا في الشمال السوري للقضاء على وحدات الشعب الكردي شريك واشنطن بالحرب على "داعش"، فالذاكرة تستمد ذكرياتها من الامتيازات التي تنالها، بصفتها استعادت النصوص التي ظهرت فيها المتاهات الأخرى، فماذا يترتب عن هذا التحول في المصائر الحربية؟ هل أميركا تريد مزيداً من الاهتزازات الكبيرة في المنطقة؟ أم أن نتائج هذا الانسحاب يضطلع بها التاريخ وتخضع لتوصيف خاص وهو إنعاش الماضي بحروب الحضارات؟!