الرئيسة \  واحة اللقاء  \  سوريا بوصفها ناقلة نفط

سوريا بوصفها ناقلة نفط

24.07.2019
عمر قدور


المدن
الثلاثاء 23/7/2019
تراجعت طهران عن الذرائع الركيكة التي ساقتها بدايةً لتبرير احتجاز ناقلة النفط البريطانية "ستينا إمبيرو" في المياه العمانية، والشريط المصور الذي بثّه الحرس الثوري الإيراني أظهر عملية إنزال مشابهة لما تعرضت لها الناقلة الإيرانية "غريس1" في جبل طارق، والتي كانت متجهة إلى سوريا في خرق للعقوبات الاقتصادية على سلطة الأسد. الحديث الدائر عن حرب ناقلات يطغى على وجهة الناقلة الإيرانية لأن الاهتمام منصب اليوم على احتمال إغلاق مضيق هرمز الذي يعدّ أهم ممر مائي لناقلات النفط، واستهداف الناقلات فيه دخل شهره الثالث، لكن مقايضة تسعى إليها طهران مع لندن بالإفراج عن الناقلتين لن ترسي عملياً حرية ناقلات البلدين في التحرك، بل فوقها حرية الناقلات الإيرانية في خرق العقوبات الغربية على الأسد.
النصر الإيراني المزدوج، إذا أُفرج عن الناقلة "غريس1"، سيمنح طهران إمكانية دعم الأسد نفطياً وهو بأمس الحاجة لذلك، فتقديرات وزارة نفطه نفسها تشير إلى تدني إنتاجها خلال الفترة المقبلة إلى مستويات أدنى من نظيرتها التي واكبت أزمة وقود خانقة. وكما نعلم تسيطر قوات قسد المدعومة أمريكياً على معظم الأراضي الغنية بالنفط، وهي أيضاً المحاذية للعراق بحيث تقطع خط الإمداد البري عبره، وبالطبع لا يمكن شحن كميات ضخمة من النفط جوياً، مثلما يتم شحن الأسلحة والميليشيات الإيرانية عبر المطارات السورية.
روسيا، التي تملك قدرة أكبر على خرق العقوبات الغربية على الأسد، لا تظهر اكتراثاً كافياً بتأثيرها، وغير متلهفة لإمداده بالنفط الروسي، وغير راغبة في إغاثته اقتصادياً بينما الاقتصاد الروسي يعاني، وبينما يسوّق الكرملين روايته عن عدم وجود أدنى كلفة للتدخل العسكري لأنه من ضمن ميزانية التدريبات الروتينية. ثم إن أهمية المساندة العسكرية الروسية تمنح موسكو ثقلاً كافياً ومريحاً، فضلاً عن إبرامها مع الأسد اتفاقيات تضمن بقاءها العسكري لنصف قرن.
بالمقارنة، طهران غير مرتاحة تماماً مع تدني الحاجة إلى وجود ميليشياتها الداعمة للأسد، ومع الضغط الإسرائيلي لإبعادها عن الأخير، وصولاً إلى تفضيل شريحة واسعة من الموالاة النفوذ الروسي على الإيراني. العودة الظافرة من البوابة الاقتصادية لها بُعْد إنقاذ الأسد على الصعيد الذي يتجنبه الروس، وتالياً إنقاذ موالاته من أزمة الوقود وتسجيل موقف لعله يذكّرهم بخطوط الائتمان الإيرانية التي أنقذت سلطتهم منذ اندلاع الثورة.
سوريا في صلب المواجهة الأمريكية-الإيرانية، حتى إذا توارى الحديث عنها، أو تواطأ كثر على إظهار الأسد خاضعاً كلياً للنفوذ الروسي. لقد كانت سوريا أحد البنود غير المكتوبة في الاتفاق النووي الذي أبرمه أوباما، ومسؤولية ضخمة من إطلاق يد طهران في المقتلة السورية ترجع لتلهفه إلى إنجازه. بمعنى أن العودة إلى الاتفاق، من وجهة نظر طهران، تقتضي الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية في سوريا والاعتراف بها شريكاً كاملاً للروس.
لولا العامل الإسرائيلي الضاغط، ربما كان الملف السوري أول ما يضحي به ترامب، وفي أحسن الأحوال التخلي عنه على طريقة سلفه وتركه للتنافس الروسي-الإيراني، وإذا أدى الأخير إلى اصطدام بين الطرفين فذلك مرغوب فيه أيضاً. تلهف ترامب للخروج من سوريا قوبل كما نعلم برفض من أركان إدارته، والبقاء غير موجه ضد موسكو ولا ضد الأسد بقدر ما يمس التطلعات الإيرانية في فتح بوابتي النفوذ في العراق وسوريا على مصراعيهما. ترك المجال من طهران إلى جنوب لبنان مفتوحاً للإيرانيين له أبعاد استراتيجية على مجمل المنطقة، وواسطة العقد في هذا المجال هي سوريا التي لا تطمع فيها على نحو خاص واشنطن، لكن ليس من السهولة عليها تركها من دون الاطمئنان عليها في الأيدي المناسبة.
صحيح أن الاشتباك الأمريكي-الإيراني له أوجه متعددة، مثل التفاصيل التقنية للسلوك النووي الإيراني، وامتلاك الصواريخ بعيدة المدى الذي تسعى إدارة ترامب إلى جعل التحكم فيه من ضمن الاتفاق، لكن الجانب التقني في الاتفاق قد يكون الأسهل مع وجود استعداد إيراني لمنح ضمانات بعدم امتلاك أسلحة نووية. النفوذ الإقليمي لإيران ربما تضحي من أجله بجزء من قدراتها وأبحاثها الصاروخية، لأنه يضمن لها على الأرض ما تعجز الصواريخ عن تحقيقه. الملف اليمني أيضاً يبدو الأسهل ضمن الرزمة الإقليمية، فهناك اتفاق سابق لاقتسام السلطة برعاية أممية، والعودة إليه "مع التربص به" أقل كلفة من حرب استنزاف لا وظيفة فعلية لها سوى الضغط على السعودية، ولا أفق حالياً لكسبها من قبل أحد الطرفين.
تصعّد إيران في الخليج ومضيق هرمز، ومن المفهوم أنها تفعل ذلك سعياً إلى المفاوضات والتسوية لا سعياً إلى الحرب. إدارة ترامب أكثر صراحة في طلبها المفاوضات، وتدرك أن للتصعيد الإيراني حدوداً لن يتعداها ولن يمسّ بالخطوط الحمراء. ضمن هذا الجو المشحون قد يبدو الهدوء الإيراني في سوريا نشازاً، ومن المستبعد أن يكون خاضعاً فقط للضبط الروسي، ولعل هذا الهدوء يشي بحساسية أكبر للجبهة التي تتحاشى طهران فتحها.
ليس جديداً في السياسة التصعيد في مكان بينما العين على مكان آخر يُراد الكسب فيه، وقد تكون سوريا مجازاً هي "ناقلة النفط" الأغلى التي يحتجز كل طرف جزءاً منها لمفاوضات وتسويات قادمة، وهذا ينطبق على أطراف أخرى غير إيران. ذلك لا يعني الاستهانة بباقي الملفات، لكن الساحة السورية وحدها استوعبت "أو قُرر لها أن تستوعب" العديد من الصراعات والتجاذبات الدولية والإقليمية، وأصبح للانتصار فيها دلالة معنوية تفوق قيمة المكاسب المتوقعة بالنسبة للعديد من الأطراف، باستثناء الذين يرون قيمتها ضمن خارطة استراتيجية أوسع. إذا كان من صفقة أمريكية-إيرانية قادمة فطهران لن تتخلى ضمنها عن مكاسب أساسية في سوريا، وإذا كان هناك من تصعيد جدي قادم فسوريا ستكون مسرحاً له، وإذا لم تصل الأوضاع إلى هذا وذاك فقد تكون موسكو الأكثر ارتياحاً لأن الوضع الحالي يتيح لها تعزيز مكاسبها على مهل