الرئيسة \  واحة اللقاء  \  روسيا والغرب تسويف ومماطلة أم وفاق مؤجّل؟!

روسيا والغرب تسويف ومماطلة أم وفاق مؤجّل؟!

05.05.2021
هادي جان بو شعيا


النهار العربي
الثلاثاء 4/5/2021  
عود على بدء، في وقت يؤكد فيه كبير الدبلوماسيين الروس وزير الخارجية سيرغي لافروف ثوابت بلاده الخارجية وملامح سياستها في التعاطي مع الملفات، وعلى رأسها العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية، قائلاً إن موسكو وضعت على طاولة واشنطن الكثير من المقترحات لإنهاء الخلافات القائمة بينهما، ولكن من دون جواب من إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، برغم مرور مئة يوم من التواصل، تقول روسيا إنها صبرت كثيراً على أميركا وسياساتها، مشبّهةً الوضع القائم بحرب باردة قد تحمل تداعيات سيئة. 
إزاء ذلك، تقابل واشنطن الخطاب الروسي بأنها ستحلّ الخلافات عبر المسار الدبلوماسي، خصوصاً أن بين البلدين خلافات لم تبدأ بسوريا، وبالتأكيد لن تنتهي بالقرم وأوكرانيا، مصحوبةً بمشاحنات عسكرية أهم ساحاتها البحر الأسود وبحر البلطيق وحدود أوروبا الشرقية، ناهيك بالحضور القوي للأمن السيبراني الذي سيكون بارزاً بقوة في خلال قمة محتملة بين الرئيسين الأميركي والروسي في بلد ثالث. 
هذه القمة المرتقبة التي اقترحتها واشنطن وتبحثها موسكو، سبقتها سلسلة توترات، من بينها وصف بايدن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالقاتل، والانسحاب من معاهدة الأجواء المفتوحة، فضلاً عن خلافات حول مشروع نورد ستريم2 الذي يشكّل مسار جدل أوروبيًّا، والذي بموجبه تقوم روسيا بتزويد أوروبا بقرابة 90% من الغاز المسال عبر ألمانيا. 
لكن لافروف قصف الجبهة اللندنية التي تلعب دوراً "خبيثاً وخطيراً" لزعزعة العلاقات الروسية - الأوروبية، إثر رفض بريطانيا مشروع نورد ستريم2 الذي سيرسّخ الهيمنة الروسية على القارة العجوز. 
فما الذي نتوقعه من العلاقات الغربية مع روسيا؟ 
وإلى أين تتجه العلاقات الأميركية - الروسية على ضوء التصعيد الحالي؟ 
وأخيراً نسأل: من يمكن أن يتحمّل أكثر برودة توتر طويل وعميق بين الجانبين؟ 
ما لا لُبْس فيه أن لافروف ينطلق من قناعة بأنه يحتاج الآن لحفظ ماء وجه الكرملين، خصوصاً أنه ليس وزير خارجية فحسب، بل يقدّم نفسه كونه أكثر الدبلوماسيين خبرةً في ذهنية السياسي الأميركي، وذلك نظراً الى سنوات طويلة قضاها في مجلس الأمن، مندوباً لروسيا. كما أن من الملاحظ أن حكومة بايدن تضع مجموعة من الأضواء الحمراء أمام سلوك الكرملين، في ما يتعلق بالهجوم السيبراني، وكذلك بالنسبة الى التحركات العسكرية في شرق أوكرانيا والبحر الأسود، واتساع نطاق النفوذ الروسي في منطقة البحر المتوسط، ناهيك بسجلّ روسيا في مجال حقوق الإنسان وعلاقة الموقف الأميركي بالدفاع عن الناشط الروسي أليكسي نافالني، وسواها من مجموعة مركّبة ومعقّدة من الأسباب يمكن اعتبارها ذرائع كافية لتوصل العلاقات الأميركية - الروسية إلى منحدر قياسي ما بعد نهاية الحرب الباردة أواخر ثمانينات القرن الماضي، بمعنى أن البيت الأبيض اليوم يعتمد مراجعة تصحيحية صارمة، واضعاً خطوطاً حمراً لا يمكن الاستخفاف بها. 
لكن هذا لا يعني بالضرورة أن واشنطن وموسكو تتجهان إلى تصعيد أو إلى إعادة إنتاج الحرب الباردة. وذلك نظراً الى وجود نوع من الحرص على طرح براغماتي في معالجة العلاقة مع روسيا من جانب البيت الأبيض، يقابله انفتاح على فكرة لقاء القمة بين بايدن وبوتين. 
ومن المفيد ذكره أنه قبل يومين أعطى الكرملين موافقة إيجابية على قبول الدعوة الى لقاء سيجري في أوروبا. إذاً يمكن القول إنها مرحلة استعراض استراتيجيتين متنافستين، لكن ضمن نطاق وجوب العودة إلى الوفاق، وهو العنوان العريض الذي اتسمت به حقبة الحرب الباردة لقرابة 45 عاماً، إذ لم تشهد طلقة نارية واحدة، برغم كثرة الملفات الخلافية، وهذا ما سينسحب على الأزمة الأوكرانية القديمة الجديدة، والتي لن تشهد ذاك التصعيد الذي يخشاه الجميع بين المعسكرين الأميركي والروسي.ولعلّ خلاصة القول أن هناك دعوة لرقصة تانغو بين واشنطن وموسكو لكن بشروط أميركية! 
أمام هذا المشهد يمكن القول إن الولايات المتحدة لم تستسغ فكرة التحوّلات الحاصلة والناشئة في موازين القوى العالمية، وتسعى بشتى السبل الى تغيير الواقع الراهن، إذ لا تتقبّل فكرة تنامي النفوذ الروسي على الساحة الدولية، ولا شك في أن روسيا باتت تعي جيّداً أنها قدّمت لأميركا مثالاً سيئاً تجلّى بتنازلات عدة، في أكثر من ملف، خلال العقود الثلاثة الماضية، إذ كانت دائماً تستمع لأميركا وتوافق على خطواتها في معظم الملفات الدولية من دون الرجوع للأمم المتحدة، بدءاً من حرب يوغوسلافيا واحتلال العراق، مروراً بليبيا وتدميرها، وصولاً إلى أوكرانيا والانقلاب العسكري الذي كانت تقف خلفه الإدارة الأميركية السابقة. 
ومع قرار بوتين وضع خطوط حمر لن يسمح بعد اليوم بتخطيها في روسيا، والحدّ من الدور الثانوي أو الملتحق لموسكو بقرارات الولايات المتحدة، وتغيّر لهجة لافروف في الآونة الأخيرة، متّسمةً بالنديّة، والتي باعتقاد كثيرين من المراقبين، أنها تأخرت كثيراً، إذ كان من المفترض وضع النقاط على الحروف، منذ فترة طويلة، للحؤول دون إعطاء واشنطن صورة مشوّشة إلى حدّ بعيد حول النيات الروسية الدفينة.  
أما على صعيد العلاقات الروسية - البريطانية، فليس جديداً القول إنها متوترة منذ سنوات، إذ لطالما كانت لندن، قبل الخروج من الاتحاد الأوروبي، الأكثر تشدّداً حيال العلاقة مع روسيا ضمن الاتحاد الأوروبي. وبعد خروجها من البريكست تحرّرت أكثر في قراراتها، وهي ترى في روسيا ذاك الخطر الرامي لاستعادة نفوذ الاتحاد السوفياتي وممارسته ودوره الفاعل كقوة عالمية في ساحات عدة من الشرق الأوسط وآسيا ووسط آسيا، وهذا ما يتعارض وتطلعات الغرب وعلى رأسه أميركا، خصوصاً في ظل علاقتها المتنامية مع الصين والتي تتهدّد الغرب الأوروبي - الأميركي. 
وإذا ما ألقينا نظرة على العلاقة بين واشنطن وموسكو، لا بد من استحضار عنصرين أساسيين: الأول داخلي - أميركي، ويكمن في تصحيح الوصمة السلبية التي لحقت بالبيت الأبيض، إبان حكم الرئيس السابق دونالد ترامب الذي كان خانعاً أمام الكرملين وبوتين، وإعادة الاعتبار إلى الرئاسة الأميركية. أما العنصر الثاني فهو خارجي، ويقوم على استراتيجية ترميم المنظومة الغربية بزعامة الولايات المتحدة للتصدي لطموحات الروس. ولكن هذا كلّه لا يلغي حقيقة أن العالم أمام مواجهة بين إمبراطوريتين اثنتين، أولاهما أميركا التي يحاول بايدن استعادة قوتها لتكون رائدة العالم الغربي للحدّ من المعسكر الروسي. 
في المقابل، كان ملاحظاً، تأثير وصول بوتين إلى الحكم، منذ عقدين من الزمن، سواء حينما كان رئيساً للوزراء أم رئيساً حالياً لروسيا، محاولاً استعادة الإمبراطورية الروسية، وما يترتّب على ذلك من عودة إلى تنافس القطبين العالميين، والذي يتماهى إلى حدّ كبير مع منطق التنافس الذي ساد حقبة الاتحاد السوفياتي قبل عام 1989. وهذا ما يعكس حرب الخطابات القومية أكثر منه تنافساً حقيقياً على مناطق النفوذ. 
في الختام، لا شك بأن الارتباط العضوي بين بريطانيا وأميركا سينعكس تصعيداً سياسياً، يرمي إلى محاصرة روسيا، وهذا ما يحصل من خلال وجود قوات بريطانية في بولندا ودول البلطيق، وتقديمها مساعدات عسكرية لتظهر وجهاً جديداً قوياً لها، عبر إرسالها قافلة بحرية الى بحر الصين الشرقي لتفرض وجوداً لوجستياً، كذلك انضواء الغرب ممثلاً ببروكسل وأميركا وبريطانيا ضمن حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي يتقدّم لمحاصرة روسيا من جهة، وإحداث خلل في التقارب الروسي - الصيني من جهة أخرى. 
 فهل سيكون التقارب الروسي مع الغرب مجرّد تسويف ومماطلة، أم أنه سيستند إلى منطق الوفاق الذي طبع حقبة الحرب الباردة لأكثر من أربعة عقود من الزمن؟