الرئيسة \  واحة اللقاء  \  روسيا ليست دولة انتداب على سورية... إنها "دولة ضامنة"

روسيا ليست دولة انتداب على سورية... إنها "دولة ضامنة"

27.07.2017
لؤي حسين


الحياة
الاربعاء 26/7/2017
قلت وكررت مراراً خلال السنوات الماضية إن إطاحة بشار الأسد عن سدة الرئاسة السورية لم تكن مسألة مطروحة جدياً، ولا لحظة واحدة، من قِبل الأطراف الدولية صاحبة القرار بمصائر الدول والشعوب، أي الولايات المتحدة. كنت أقول ذلك بحكم اطلاعي "الطفيف" على مجريات الأمور، ولكن أيضًا بحكم مجريات الواقع. فببساطة، لو كان في نية واشنطن إطاحة سلطة الأسد لاشتغلت على تشكيل مكوّن سياسي يكون بديلاً لتلك السلطة. لكن كل التشكيلات والكيانات السياسية، بل العسكرية أيضاً، التي اعتمدتها واشنطن، أكانت تلك التي أشرفت مباشرة على بنائها أم التي كلّفت دولاً إقليمية بذلك، كلها كانت عبارة عن هياكل ضعيفة وفارغة، لا يزيد دورها عن دور فزاعة الطيور في الحقول.
فجميع الشخصيات التي اعتُمدت اقليمياً أو أميركياً، وكذلك بريطانياً أو فرنسياً، كانت تفتقد في شكل مطلق لأدنى مواصفات القيادة، بخاصة القيادة الوطنية، أي ليس بينها شخص واحد يمكن إدراجه ضمن صنف "رجال دولة".
الشيء المؤكد أن كل ما كان يجري لم يكن هدفه بتاتاً إجراء تغيير "تقدمي" يطيح السلطة المستبِّدة لاستبدالها بسلطة ديموقراطية تراعي حقوق الإنسان. بل حَكَمَت التدخلات الدولية منذ بداية الصراع قاعدة إضرار الدول بعضها ببعض، ما جعل كل مستويات الصراع محكومة بسياق تدميري تحطيمي. فكل الدول كانت تؤجج الصراع بهدف تدمير وتحطيم تموضعات خصومها من الدول الأخرى، فالموضوع ليس تنافساً نفعياً يقوم على أن تنتفع هذه الدولة أكثر من تلك، بل قام على أن تتضرر تلك الدولة الخصم مهما كانت التكلفة من المقدّرات أو الأرواح السورية.
ولم يكن هدف أي دولة إطلاقاً، ومن دون استثناء، مساعدة السوريين للخروج من مرحلة التخلف التي تقتضي وجود السلطة الاستبدادية إلى مرحلة الحداثة التي تستوجب السلطة الديموقراطية (العلاقة بين التخلف والاستبداد علاقة متبادلة الدعم. كذلك فالسلطة المستبدة هي الأكثر حرصاً على إدامة التخلف).
حتى الموقف المعارض للدول الإقليمية من النظام السوري جاء ضمن ميادين صراعها الإقليمي مع إيران. فهذه الدول كانت تريد الإضرار بإيران وما كان يهمها إطلاقاً شيئاً من أمر النظام، لا بتكوينه ولا بسلوكه. وفي السياق ذاته كان موقف إيران. كذلك كان موقف الدول الأوروبية التي ناوأت النظام، فقد كان ذلك، ولا يزال، ضمن سياقات صراعها مع روسيا. ربما تمايزت تركيا قليلا عن ذلك إذ لم يكن لها خصوم مباشرون، بل منافسون أقوياء في زعامة المنطقة، لهذا حاولت أن لا تغالي كثيراً في الإضرار بقدر ما حاولت تحصيل مكاسب. وهذه القاعدة هي التي حكمت موقف الولايات المتحدة وروسيا.
ليس ما أعرضه هنا هو في مقام بحث صورة الصراع الذي يدور لأكثر من ست سنوات، بل محاولة لمعرفة جوانب رئيسة منه بهدف الاستفادة في معرفة سياقات المرحلة المقبلة. فالحرب على السلطة انتهت بالمطلق. الصراع المسلح على السلطة انتهى في شكل تام. ولم نعد في حاجة إلى تقديم براهين لتأكيد هذا الأمر كما كان حالنا عندما قلنا ذلك في شباط (فبراير) الماضي. ولم يعد الأمر يحتاج إلى ظهور جنرالات يعلنون انتهاء الحرب، فهذه انتهت ولم يعد من شيء عسكري، خارج الجيش السوري، يمتلك مشروعية لغير مقاتلة داعش والنصرة.
انتهت الحرب، وبدأ يظهر إلى العلن تعبير "مرحلة بعد الحرب" كمحور رئيسي في التباحث الدولي (محادثات القمة الأميركية الفرنسية الأخيرة مثالاً). لكن مآلات مرحلة بعد الحرب اختلفت جذرياً عما كانت عليه قبل أشهر قليلة، أي قبل حسم معركة حلب لمصلحة روسيا وبدء مسار الآستانة. فهذا المسار، الذي صممته موسكو، قوّض مسار جنيف، الذي كانت قد وضعته موسكو، أيضاً، بمشاركة الولايات المتحدة وتحت مظلة مجلس الأمن والأمم المتحدة وبحضور الدول الإقليمية. فهذا المسار أفلس نهائياً قبل بضعة أشهر، ولم يعد لديه أي إمكانية لإنتاج شيء، لكنه سيبقى كونه لا يشكل ضرراً على أي من الأطراف الدولية، ولا على الأمم المتحدة التي عليها الظهور بمظهر القادرة على التدخل في هذا النوع من الصراعات.
استطاعت روسيا أن تتحول "دولةً ضامنة" بعد انتصارها التام في معركة حلب، التي رافقها العديد من حفلات "الردح" الدولية التي قادتها باريس ولندن وواشنطن استهجاناً واستنكاراً للانتصارات التي كانت تحققها موسكو. هذه المعركة ربحتها روسيا من دون زيادة في العداوات الدولية، على رغم إبعادها جميع الأوروبيين من "البيدر" السوري.
انجلاء الغبار عن معركة حلب، وظهور المنتصر والمهزوم فيها، وعجز الإدارة الأميركية عن لعب دورها بترؤس طاولة حل الأزمة السوري، وتوجه الرئيس الفرنسي الجديد الذي رأى، خلافاً لسابقَيه، أن دور فرنسا في اللوحة السورية كان مساهماً في انتشار التيارات الجهادية، ومؤخراً الخلاف الخليجي الذي فصم كيان المعارضة الجهادية السورية، هذه كلها عوامل جديدة تؤكد أن روسيا باتت "الدولة الضامنة" للنظام السوري، بل للميليشيات الشيعية المؤتمِرة بأوامر طهران، وإن تموضع روسيا هذا يتطابق تماماً مع دور "دولة الانتداب" أو "دولة الوصاية" الذي عرفته سورية (إضافة للبنان) بدايات القرن الماضي عبر الانتداب الفرنسي المقرّ من عصبة الأمم المتحدة.
الولايات المتحدة من ناحيتها أقرت بتموضع روسيا كدولة ضامنة للنظام بجيشه وسياساته واقتصاده. كان ذلك عبارة عن الخلفية التي ظللت لقاء الرئيسين الأميركي والروسي في مدينة هامبورغ الألمانية، خلال قمة العشرين. فقد أقرت واشنطن بهذا التموضع بعدما تمكنت روسيا، بعد صراع معقّد، من إخضاع النظام السوري كلياً، فباتت تمسك بالقياده في شكل تام، ما جعلها تصبح ضامنة له على الصعيد الدولي بلا أدنى حاجة للرجوع إليه. وقد أقر الطرف الأميركي بذلك بعدما ظهر عليه عجز كلي عن لعب دور مهم. فقصف مطار الشعيرات، وإسقاط طائرة عسكرية سورية، واستهداف مواقع ميليشيات حليفة للنظام، كلها عبارة عن أفعال صغيرة لا تتناسب البتة مع مكانة الولايات المتحدة كطرف يمتلك المقدرة على التأثير في مصائر الكون.
المشهد الآن بات واضحاً جلياً لا يحجبه أو يخفيه أي ضباب. فروسيا تمكنت من تحقيق انتصار صريح ونظيف وتام على كل الأطراف المشاركة في الساحة السورية، وأهمها انتصارها الساحق على النظام. بات الوضع برمته الآن محكوماً بمشيئة الطرف الروسي وهواه، بعد ما تمكن من الإمساك بقِياد النظام، بحيث أمسى المستقبل السوري المنظور مرهوناً، وفق المعطيات الحالية، بما يقرره الطرف الروسي أو يرتضيه. فمع غياب الحضور الأميركي الفاعل في الملف السوري بات السبيل مفتوحاً كلياً لموسكو للعمل على حل الأزمة السورية وفق مقلوب التصورات التي كنا نعتمدها الصيف الماضي. إذ كانت تصوراتنا حينذاك تقوم على أن الدولتين الكبريين، أميركا وروسيا، ستتفقان على صيغة تسووية تتضمن سلطة انتقالية ومواعيد محددة لانتخابات رئاسية وبرلمانية، ومنع إطلاق النار، وآلية لصياغة دستور جديد، وغير ذلك من القواعد والنُّظم التي من شأنها ضبط مرحلة انتقالية يتم خلالها تقاسم النفوذ السياسي والعسكري بين الدول المعنية بالموضوع السوري. وطبعاً مع اختيار شخصيات سورية، من المعارضة والموالاة والتكنوقراط، لتنفيذ البرامج التي تضعها واشنطن وموسكو.
لكن الآن، بات بمقدور الضامن الروسي أن يقوم بتسوية الأوضاع الداخلية السورية على الصعد العسكرية والأمنية والسياسية والمعيشية في شكل مناطقي، أي في كل منطقة على حدة، فيكون الطرف الضامن، أي المسيطر كلياً، على كل تفاصيل الواقع السوري. ذلك إلى أن يحين موعد استحقاق التسوية المتأخرة مع الطرف الأميركي، وحينها لن يكون أمام واشنطن سوى التسليم بما هو قائم، لعدم وجود أطراف متصارعة في مجمل مناطق الواقع السوري. فتكون التسوية التي يتم من خلالها إعلان انتهاء الأزمة مجرد إقرار بالواقع القائم، حتى لو تشابك ذلك مع تسمية عدد من الشخصيات المعارضة من قِبل واشنطن أو من هم في حلفها من الدول.
هذا ليس تصوراً لما يمكن أن تقوم به موسكو لتسوية الأوضاع الداخلية السورية، بل هو تصوير لما تقوم به الأركان الروسية في قاعدة حميميم فعلياً في كل مناطق الاشتباك التي يشارك فيها النظام أو حلفاؤه من الميليشيات الشيعية. وهذا قد لا يكون أسوأ المآلات التي كانت متوقعة خلال السنوات الماضية، بل قد يكون أفضلها أو أفضل الممكن. وقد يكون الأفضل منه إقراراً دولياً بأن روسيا، كدولة ضامنة، هي بمثابة دولة انتداب جديد على سورية، تتحمل مسؤولية إخراج البلاد من الخراب الذي وقع عليها، مع مساءلة دولية "ما". غير أن مثل هذا الخيار ليست له أي حظوظ في التحقق لأسباب عدة، ليس أولها عدم أهلية الإدارة الأميركية الحالية للقيام بمثل هذا الدور الجريء، ولا آخرها عدم قبول روسيا بوضع ذاتها أمام مساءلة خصومها. لكن المهم في المحصلة هو انتهاء الحرب، فهذا في حد ذاته أمر عظيم يخدم مصالح جميع السوريين. فاستمرار الحرب لم يكن من شأنه سوى زيادة القتل والتدمير والتهجير، ومفاقمة تفكيك المجتمع السوري، وازدياد تشظي السيادة الوطنية.