الرئيسة \  واحة اللقاء  \  روسيا تصارع طواحين الهواء في سورية

روسيا تصارع طواحين الهواء في سورية

07.05.2019
محمود الحمزة


جيرون
الاثنين 6/5/2019
توهّم البعض، وخاصة في روسيا، بأن الانتهاء من (داعش) والمسلحين، من المعارضة والمجموعات الإرهابية، سينقل سورية إلى مرحلة السلم والبناء، التي تَعِدُ بجني الأرباح وتثبيت المواقع عقودًا طويلة.
فتنظيم (داعش) الذي أعلن المسؤولون الروس مرارًا القضاء عليه، لم ينتهِ بعد، والإرهابيون الذين يُعدّون بعشرات الآلاف لم ينتهوا بعد، وتستمر الاحتلالات المختلفة لمناطق واسعة في مختلف أرجاء البلاد.
منذ البداية، عمل الروس على الالتفاف على القرارات الدولية، فاخترعوا مسار أستانا بمساعدة تركيا، ونجحوا في استعادة مناطق كبيرة لسيطرة النظام، باستخدام لعبة “مناطق خفض التصعيد”، وتمكنوا من إجهاض الفصائل المسلحة، وتهميش المعارضة السياسية (هيئة التفاوض التي ميعوها بعد إدخال منصات موسكو والقاهرة، وأصبحت مشلولة).
وما نرصده في المشهد السوري هو شيء يشبه السراب؛ كلما اقتربنا من الخلاص وجدناه بعيدًا. فلماذا يحدث ذلك؟
تكمن المشكلة الأساسية في أن لا أحد يريد تقديم حل مقبول عادل ودائم للوضع في سورية؛ فكل القوى المتنفذة تطبق أجندات خاصة بها، وتبحث عن مصالحها الجيوسياسية والجيواستراتيجية. وأهم لاعبين: روسيا وأميركا، ينسقان بشكل وثيق واستراتيجي مع “إسرائيل”. ونحن نعرف ماذا تريد “إسرائيل” في المنطقة. أقلها تحقيق مخطط “الشرق الأوسط الجديد” الذي يؤدي إلى تقسيم المنطقة إلى دويلات طائفية واثنية ضعيفة، تخضع لدولة “إسرائيل” اليهودية القوية.
قاموا بإجهاض المعارضة، بشقيها المسلح والسياسي، وشوهوا منظمات المجتمع المدني التي نشأت بخجل ولم تثبت نفسها، لأسباب تتعلق بمحاربتها من قبل القوى المهيمنة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وهي قوات (قسد) و(هيئة تحرير الشام) وكلاهما وجهان لعملة واحدة، والوجه الثالث هو نظام الأسد. إضافة إلى دور الدول والجهات الخارجية في تقسيم القوى الوطنية السورية وابتزازها عن طريق الترهيب والترغيب، في ظل أوضاع مأسوية يعيشها الشعب السوري.
ما نعيشه اليوم في سورية يمكن وصفه كما يلي:
الحرب لم تنته بعد، ولن تنته قريبًا، لوجود قوى مسلحة فوق الأرض وتحت الأرض (الخلايا النائمة)، والقوى المحتلة لسورية لم تتفق بعد على تقاسم النفوذ والمصالح. علمًا أن هناك خبيرًا روسيًا يقول إن القوى الأجنبية الأساسية التي تمسك بالأرض هي أميركا في شمال شرقي الفرات، وتركيا في الشمال، وبقية المناطق عمليًا تحت الهيمنة الإيرانية المتداخلة مع بقايا جيش الأسد، أما الروس فليس لهم مناطق نفوذ تخضع لقوات برية روسية، باستثناء القوات الأمنية الخاصة (المرتزقة من منظمة فاغنر) التي لا تضاهي القوات العسكرية وجيوش الدول الأخرى.
بما أن الحرب لم تنته، فكل المساعي الأخرى ناقصة وغير مكتملة. فمشروع عودة اللاجئين فاشل، لعدم توفر ظروف آمنة لهم وبنية تحتية. واللجنة الدستورية، التي أعلن عن ضرورة تشكيلها مؤتمر سوتشي، لم تكتمل، بالرغم من تصريحات الروس المكررة عشرات المرات بأنها ستُعلن قريبًا، ويعدّونها بداية “التسوية السياسية”. وهذا يشبه ذر الرماد في العيون؛ فلا اللجنة ولا الدستور الجديد الذي قد يستغرق إعداده سنوات، سينقذان البلاد، وخاصة إذا ما عرفنا أن القرارات في اللجنة ستتخذ إما بالإجماع أو بنسبة 75 بالمئة من الأصوات. ونحن نعلم أن ما لا يقل عن ثلثي الأصوات يصب في مصلحة النظام. لذلك حتى لو اتخذت اللجنة قرارات، وقدّمت أفضل الدساتير في العالم، ستبقى مشكلة التطبيق على الأرض هي الأهم. فمن سيشرف على التطبيق؟ هل هي مخابرات الأسد أم إيران أم روسيا أم حتى الأمم المتحدة بإشرافها الهزيل وتواطئها الذي شهدناه من خلال توزيع الإغاثات الإنسانية التي كان أغلبها يصل إلى شبيحة النظام، وليس للمتضررين الحقيقيين. حتى مفاوضات أستانا الأخيرة، في دورتها الثانية عشرة، لم تحقق نتائج عملية ملموسة، بالرغم من أن المبعوث الخاص للرئيس الروسي حول سورية ألكسندر لافرينتيف وصفها بـ “المثمرة”.
هناك جدار أصم في موضوع الحصول على تمويل لإعادة الإعمار، فلا أحد يريد الاستثمار، لأن المجتمع الدولي يشترط -للمساهمة في التمويل- إجراء “تسوية سياسية” أو لنقل نوعًا من “الحل السياسي” أو كما يقول المبعوث الأميركي إلى سورية جيفري: “تغيير النهج السياسي للنظام السوري”. وكل ذلك كلام ضبابي لا يغني ولا يسمن، لأنهم يتجاهلون قرارات مجلس الأمن وجنيف التي توصي بتغيير جذري في بنية النظام، بدءًا من تشكيل هيئة حكم انتقالية تشرف على كل المرحلة الانتقالية، ومن ضمنها إعداد دستور وانتخابات وغيرها. لكن الذي نراه اليوم هو شيء آخر مقلوب ومعكوس. وهنا تكمن احدى المعضلات الكبرى التي تعيق الوصول إلى استقرار في البلاد.
زيارات المسؤولين الروس الأخيرة (ممثلين عن وزارتي الخارجية والدفاع وقطاع المال) إلى منطقة الخليج، لم تقدم نتائج ملموسة في موضوع جذب رؤوس الأموال، وإقناع تلك الدول بإعادة علاقاتها مع نظام الأسد، فضلًا عن المشاركة في تمويل إعادة بناء الاقتصاد السوري الذي يحتاج -كما تفيد مصادر- إلى ما لا يقل عن 400 مليار. وهناك خبراء يقولون إن المبلغ المطلوب يصل إلى 750 مليارًا، وهذا يعني 13 سنة من البناء لكي تعود سورية إلى ما كانت عليه عام 2010. ويكفي أن نذكّر بتقرير دولي يقول إن مدينة حلب وحدها تحتاج إلى 6 سنوات لتنظيفها من الدمار وبقايا البيوت المهدمة.
الصراع الروسي الإيراني يتعاظم في كافة المجالات العسكرية الميدانية، وعلى مستوى كسب النفوذ في القيادات العسكرية والأمنية وفي الاقتصاد. فكلنا يسمع عن معارك دارت بين القوات المحسوبة على إيران وروسيا، وما زالت تتكرر في شمال حماة وفي حلب وفي دير الزور وغيرها. وكذلك سمعنا عن توقيع الأسد، الذي جُلِب إلى طهران على متن طائرة شحن برفقة قاسم سليماني وكأنه أسير، اتفاقية مع الإيرانيين تقضي بتأجيرهم ميناء اللاذقية منذ شهر أكتوبر القادم لعشرات السنين. والميناء على مقربة من قاعدة حميميم الروسية، وهذا نوع من الاستفزاز، خاصة أن إيران تخطط لاستخدام ميناء اللاذقية ليس في مجال الاستيراد والتصدير التجاري فحسب بل كقاعدة عسكرية تتجول فيها السفن الحربية الإيرانية. والنقطة الحساسة هنا هي أن الحرس الثوري الإيراني، تم وضعه مؤخرًا في واشنطن على قائمة الإرهاب، وبالتالي يمكن للولايات المتحدة أن تقصف ميناء اللاذقية بحجة وجود قوات الحرس الثوري الإيراني فيه.
كما شهدنا زيارة سريعة منذ أسابيع لنائب رئيس الوزراء الروسي بوريسوف إلى دمشق لتقديم طوق النجاة لنظام الأسد، وتوقيع اتفاقية استئجار ميناء طرطوس لمدة 49 عامًا. والهدف هو استخدامه كقاعدة عسكرية وتجارية، لتصدير النفط السوري واستيراد المشتقات النفطية لحل الأزمة الخانقة التي عاناها النظام مؤخرًا بسبب غياب البنزين والغاز في الأسواق، الأمر الذي أثار حتى حفيظة الموالين. ولكن المشكلة تكمن في الحصول على النفط السوري لتصديره عبر طرطوس؛ حيث إن المناطق الغنية بالنفط شرقي الفرات تقع بيد الأميركان.
الضغوطات الأميركية والعقوبات على النظام والتهديد بمعاقبة أي دولة أو شركة تتعاون معه في مجال النفط والمصارف. هذا الأمر أحرج الإيرانيين وأوقف الإمدادات بالنفط وغيره عبر الطريق البري: إيران –العراق- سورية (الهلال الشيعي) بسبب رقابة القوات الأميركية و(قسد) التابعة لها على الطريق في سورية. ويقال إن ترامب في لقائه الأخير ضغط على الرئيس السيسي، لكي يمنع مرور ناقلات النفط الإيرانية من قناة السويس إلى النظام السوري.
يشكك بعض الخبراء الروس في جدوى الاتفاقيات طويلة الأجل التي عقدتها موسكو مع نظام الأسد المتهالك، ويذكرون بالاتفاقيات التي عقدتها روسيا مع جورجيا وتركمنستان لبناء قواعد عسكرية لمدة 25 سنة، ثم ألغيت بعد سنوات قليلة، نتيجة تغير الأوضاع السياسية في تلك البلدان.
الصراع الأخطر في المنطقة الذي يدور حول سورية وداخلها، هو بين “إسرائيل” وأميركا (مع ملاحظة وجود تحالف استراتيجي بين روسيا وإسرائيل معاد لإيران) من جهة، وإيران من جهة أخرى. لان نتنياهو صرح مرارًا بأنه لن يسمح بالوجود الإيراني العسكري الدائم في سورية، باعتباره خطرًا على “أمن إسرائيل”، كما يرى نتنياهو. ولكن إيران تتوسع وتستأجر ميناء اللاذقية. فماذا ستفعل “إسرائيل”؟ وكيف ستكون ردة الفعل الروسية؟ لأن أي معارك ستدور على مقربة من قاعدة حميميم أو ميناء طرطوس ستشكل خطرًا حقيقيًا على القوات الروسية في الساحل السوري.
سورية حاليًا هي جزر متفرقة مدمرة، أرضًا وشعبًا، مزروعة بالألغام والمخاطر الكبرى: احتلالات أجنبية متصارعة فيما بينها، مسلحون من مختلف المشارب، ونظام ضعيف يتمركز في دمشق، يعاني أزمات خانقة اقتصادية واجتماعية ومالية، وتتجاذبه إيران وروسيا يمينًا وشمالًا.
الروس يكابرون، ويدلون بتصريحات لا تطابق الواقع، بأن جهودهم تثمر في سورية. ولكن الحقيقة والواقع غير ذلك؛ فموسكو -مع الأسف الشديد- لا تستفيد من التجارب، وما زالت على مدى 8 سنوات تدافع عن عصابة الأسد وتلمّع صورته، لدرجة أنها بدأت تصدق هذه الكذبة، ولم يعد بإمكانها التراجع إلى الوراء.
ولا نعرف كيف ستحلّ موسكو هذه المعادلة ذات المجاهيل المتعددة، وكيف ستتجنب صراعات جديدة واستنزافًا جديدًا، ومتى ستبدأ جني ثمار تدخلها العسكري وتورطها في المستنقع السوري؟!