الرئيسة \  واحة اللقاء  \  روسيا تدفع بأحجارها على رقعة الشطرنج

روسيا تدفع بأحجارها على رقعة الشطرنج

04.04.2019
جلبير الأشقر


القدس العربي
الاربعاء 3/4/2019
من المعلوم أن منطقة "الشرق الأوسط الكبير" التي تضمّ الدول العربية وإسرائيل وتركيا وإيران والقرن الأفريقي طالما كانت مسرحاً للحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي إثر الحرب العالمية الثانية. وقد حلّ ذلك التنافس بين قوتيّ عصر الحرب الباردة العظميين محلّ التنافس الذي كان قائماً بين الاستعمارين البريطاني والفرنسي، اللذين كانا يتقاسمان المنطقة قبل أن يخرجا منهكين من الحرب العالمية ويفقدا موقعاً تلو الآخر فيها.
وقد كان للصراع بُعدٌ أيديولوجي إذ ساندت موسكو التيّار القومي العربي وسائر الأنظمة التي ألقت على نفسها تسمية الاشتراكية والتي درجت تسميتها آنذاك بالأنظمة التقدّمية، في وجه الأنظمة الموالية للغرب التي درجت تسميتها بالأنظمة الرجعية. فبينما عقدت موسكو روابط اقتصادية وعسكرية وثيقة مع كلٍ من مصر وسوريا والعراق والجزائر واليمن الجنوبي وليبيا وأثيوبيا في مراحل مختلفة من الحرب الباردة بين 1945 و1990، تولّت واشنطن دوري الحماية والوصاية إزاء الأنظمة الخليجية، وبالأخص المملكة السعودية، وعقدت تحالفاً وثيقاً مع الدول الأخرى، ولاسيما تركيا وإيران (في زمن الشاه طبعاً) وإسرائيل والأردن والمغرب واليمن الشمالي.
وبعد تلاشي نفوذ موسكو الإقليمي مع انهيار الاتحاد السوفييتي في بداية التسعينيات، الذي تزامن مع بلوغ نفوذ واشنطن الإقليمي ذروته، عادت روسيا بزعامة فلاديمير بوتين تدفع بأحجارها على رقعة شطرنج "الشرق الأوسط الكبير" في السنوات الأخيرة. وقد شكّل التدخّل الروسي في سوريا حيث أنقذ نظامَ آل الأسد من سقوط بدا محتوماً بالرغم من محاولة إيران وأتباعها إسعافه، شكّل ذاك التدخّل منعطفاً رئيسياً في امتداد نفوذ موسكو الإقليمي. وكان الظرف سانحاً بصورة مثالية: فقد بدت واشنطن في عهد باراك أوباما وكأنّها باتت تخشى التدخّل العسكري في المنطقة بعد الإخفاق الكبير الذي أفضى إليه الاحتلال الأمريكي للعراق وبعدما انضاف إلى ذاك الإخفاق فشل التدخّل في ليبيا الذي انجرّ إليه أوباما مضطرّاً.
روسيا البوتينية تمكّنت ببراعة أن تقدّم أحجارها بصورة متزايدة على شطر رقعة الشطرنج الإقليمية الذي كانت واشنطن تتحكّم به حتى وقت قريب
وقد رأى بوتين أن ينتهز تلك الفرصة التاريخية بدءًا من عام 2015، فحقّق نجاحات كبيرة في ظرف السنوات الثلاث ونصف المنصرمة منذ تدخّل سلاح الجوّ الروسي في النزاع السوري. فبعد أن ألقى بثقله في ميزان القوى في سوريا وتمكّن من ترجيح كفّة النظام السوري، جاء سقوط حلب بعد سنة واحدة مشكّلاً أبرز إشارة إلى فعّالية التدخّل الروسي. وقد نجحت موسكو هكذا في إيصال الرسالة التي توخّت توجيهها إلى حكّام المنطقة، وهي تتضمّن بندين: أوّلهما أن السلاح الروسي لا زال سلاحاً ناجعاً ومتقدّماً مثلما كان في زمن الاتحاد السوفييتي، والحال أن صناعة الأسلحة هي الوحيدة التي تمكّنت موسكو من الارتقاء فيها إلى مستوى منافسة الولايات المتحدة أثناء الحرب الباردة؛ أما البند الثاني فهو معاكسٌ للإرث السوفييتي، إذ يقوم على الحلول محلّ واشنطن في لعب دور حامي الأنظمة الرجعية في وجه الموجة الثورية العارمة التي اجتاحت المنطقة مع "الربيع العربي".
وقد أثبت بوتين براعته في سياسة القوة والتدخّل العسكري التي طالما كانت ميزة واشنطن إزاء اتحاد سوفييتي لم يخرج من حدود منطقة النفوذ التي حاز عليها إثر الحرب العالمية الثانية إلا في نهاية عام 1979 عندما احتلّ أفغانستان، وقد أصيب فيها بإخفاق عظيم ساهم في تعجيل انهياره. أما الآن فقد باتت شتّى أنظمة المنطقة تساير موسكو البوتينية وتعقد معها علاقات تعاون في المجال العسكري، وباتت روسيا القوة التي تعلم كافة الأنظمة الرجعية الإقليمية أن بإمكانها الاتّكال عليها لنجدتها لو احتاجت إلى إسعاف.
إن الصورة العامة الراهنة لمعبّرة تماماً. فلنبدأ بسوريا والجزائر، البلدين اللذين حافظا على علاقة عسكرية وطيدة بموسكو بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. فبعد أن أنقذت موسكو نظام آل الأسد من عواقب "الربيع العربي"، ها هي تعرض خدماتها على النظام الجزائري في وجه الحراك الشعبي العارم الذي اجتاح البلاد منذ بداية العام الجاري. وقد ألمح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى أنّ وراء الحراك الشعبي الجزائري "مؤامرة"، مكرّراً النغمة المعتادة لدى كافة الأنظمة الرجعية إزاء الحركات الشعبية.
هذا وقد نجحت موسكو في عقد أواصر عسكرية مع كل من عرّابي معسكري الحرب السورية، ألا وهما إيران وتركيا. فها أن تركيا تستعدّ لشراء صواريخ إس 400 من روسيا بالرغم من تحذيرات واشنطن لها ومن عضويتها في الحلف الأطلسي، وهي عضوية غدت قيمتها تتساقط بسرعة تساقط قيمة الليرة التركية. وها أن إيران تتفاوض مع موسكو لشراء طائرات سوخوي سو 30، بل لتحصل على ما يخوّلها بناء مثيلاتها، وإن تعثّرت هذه المفاوضات في الأشهر الأخيرة. أما الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي، فقد بنى علاقة مميّزة مع بوتين إثر إطاحته برئاسة محمّد مرسي في عام 2013، علاقة تضمّنت هي أيضاً صفقة أسلحة. وتلاه الملك السعودي الذي خصّ موسكو بزيارته الوحيدة إلى الخارج، ليتفاوض مع الحكّام الروس على شراء صواريخ إس 400 إسوة بتركيا. وخاضت دولة الإمارات المتّحدة هي أيضاً في شراء السلاح الروسي، وهي تتعاون تعاوناً وثيقاً مع كلٍّ من موسكو والقاهرة في مساندة خليفة حفتر في ليبيا، حيث يتطلّع بوتين إلى الحصول على قاعدة بحرية تكمّل ما لدى أسطوله على الشاطئ السوري. هذا وناهيكم من الصداقة الوطيدة والتعاون العسكري بين بوتين وحكومة أقصى اليمين الصهيوني التي يتزعّمها بنيامين نتنياهو.
وحصيلة كل ذلك أن روسيا البوتينية تمكّنت ببراعة أن تقدّم أحجارها بصورة متزايدة على شطر رقعة الشطرنج الإقليمية الذي كانت واشنطن تتحكّم به حتى وقت قريب. وفيما يستمرّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في إبراز احتقاره الكامل للعرب والمسلمين، باستثناء الدولارات التي تشدّه وتشدّ صهره الصهيوني بالأخص إلى وليّ العهد السعودي، فإن امتداد نفوذ موسكو على حساب نفوذ واشنطن ودور روسيا في تدعيم أنظمة المنطقة ضد الحركات الشعبية مرجّحٌ استمرارهما. وقد غدت روسيا تقوم في "الشرق الأوسط الكبير" بدور حصن الرجعية الذي كانت الولايات المتحدة تلعبه حتى زمن قريب بحيث أصبحت المنطقة تواجه قوتين عالميتين متنافستين على دعم الأنظمة الرجعية، وليس لتطلّعات الشعوب التحرّرية أي سند خارجي.