الرئيسة \  واحة اللقاء  \  روسيا الباحثة عن عظمتها المفتقدة ومصالحها بعد الحرب الباردة

روسيا الباحثة عن عظمتها المفتقدة ومصالحها بعد الحرب الباردة

26.10.2016
أندريه غراتشيف


العربي الجديد
الثلاثاء 25-10-2016
تبدو العودة المفاجئة لروسيا ما بعد السوفييتية إلى مقدمة المسرح الدولي قد أخذت الدبلوماسية الغربية على حين غرة، إذ باتت عنصر تغيير كبير الشأن في المشهد الجيو- استراتيجي الدولي. وتبدي موسكو البوتينية على نحو مكشوف، وبصورة تزداد وضوحاً يوماً بعد يوم، تصميمها على رفض النظام العالمي الذي انبثق منذ نهاية الحرب الباردة، وجرى إهمال مصالحها فيه.
وبخلاف المشكلات الملموسة التي يحدثها هذا السلوك الذي تصفه سائر العواصم الغربية بالسلوك "المهدّد"، فإن ضلوع روسيا، سياسياً أو عسكرياً، في النزاعات التي تنشب خارج حدودها  سواء في "الخارج القريب" مثل جورجيا وأوكرانيا، أو في مناطق أخرى من العالم، كما في سورية بخاصة، إنما يطرح أسئلة أكثر جسامة. ما هي طموحات موسكو الاستراتيجية الحقيقية، وكيف وبأي وسائل تعتزم تحقيقها؟
وإذا كان ارتباك المستشاريات والدوائر السياسية الغربية إزاء "المسألة الروسية" الجديدة، بديهياً، فإن أسبابه تظلّ عصيّةً على الفهم؛ فقد يمكن، في النهاية، أن يُقال عن بلدٍ مثل روسيا أي كلام كان، إلا أن تكون وافداً جديداً على المسرح الدولي. وما كان ل"عودتها" إلى المحافل الدولية، وحضورها بين الأمم الكبرى، أن يعتبر بالأمر الشاذ أو غير الطبيعي، وإنما الشاذ هو غيابها.
 
الخطاب غير المتوقع لبوتين
تبدو روسيا وكأنها دخلت، مع تواري الاتحاد السوفييتي، "في وضعية الاصطفاف والتبعية"، وقبلت بأن تلعب دور حجر الداما أو "البيدق" الذي خصّها الظافرون الكبار في الحرب الباردة به في رقعة الشطرنج الدولية. ولهذا، فإن الخطاب غير المتوقع الذي ألقاه فلاديمير بوتين في ميونخ، في فبراير/ شباط2007، إبّان المؤتمر بشأن المسائل الأمنية، أحدث ضجةً غير متوقعة. فقد تعمّد الرجل الاستفزاز، وراح يُذكر بالخطاب الذي ألقاه ونستون تشرشل في مدينة فولتون في ولاية أركنساس الأميركية في مارس/ آذار 1946، عشية الحرب الباردة؛ فقد توجّه إلى الزعماء الغربيين، وأعلن خصوصاً: "يجاهدون ليفرضوا علينا خطوطاً فاصلة، وجدراناً جديدة. وحتى لو كانت خطوطاً وجدراناً افتراضية، فإنها لن تلبث أن تقسّم قارتنا إلى دوائر ومقصورات".
"ارتكب القادة الغربيون خطأً جسيماً، حين اعتقدوا أن روسيا نفسها، وبما هي حقيقة تاريخية واقتصادية واستراتيجية وثقافية، ستختفي عن المسرح الدولي، مع زوال الاتحاد السوفييتي"
اعتبرت "غضبة" فلاديمير بوتين، في حينه، تمريناً بلاغياً يؤديّه بعض من تبقوا من أيام الحرب الباردة، فما كان يسع شركاء روسيا الغربيين أن يتخيّلوا أن الرئيس الروسي الذي كان أنهى لتوه ولايته الثانية، سيسعه أن يعود مجدّداً إلى الكرملين؛ وأهملوا الرسالة المزدوجة التي كان يحملها الخطاب، والتي كانت تعكس حنق الروس من معاملتهم على أنهم خاسرو الحرب الباردة، وتصميم روسيا الجديدة على رفض النظام الدولي الذي يفرضه الغربيون.
بعد ذلك بتسع سنوات، في فبراير/ شباط 2016، جاء دور الرئيس ديمتري ميدفيديف، الذي عاد ليصبح رئيس حكومة الرئيس بوتين المنتخب لولاية ثالثة، بأن يندّد أمام حشدٍ من المشدوهين، في مؤتمر ميونخ نفسه، بخطر انزلاق العالم نحو حربٍ باردةٍ جديدة، بل وساخنة. ولم يتردّد الخطيب المذكور بمقارنة الوضع الدولي العام 2016، بأزمة صواريخ كوبا لعام 1962: "لا أحد يريد الحرب. لكن أميركا الشمالية والاتحاد الأوروبي وروسيا يتجهون نحو الحرب، ويسيرون إليها في خطٍ مستقيم".
هل كان ذلك مزايدة لفظية، خدعة سياسية، أم معاينة محزنة للواقع؟ الواقع أن العلاقات بين روسيا الما بعد سوفييتية والغرب، انتقلت، في أقل من خمسة وعشرين عاماً، من نشوة انتهاء الحرب الباردة إلى عتبة النزاع المعمم. والحق هو أنه يكفي، لفهم ذلك، العودة إلى حصيلة أو محصّلة "نتاج" روسيا الما بعد سوفييتية.
انفجار الاتحاد السوفييتي والإفلاس المعترف به للمشروع الشيوعي، أغرقا روسيا في أزمة ثلاثية الأبعاد: سياسية، اقتصادية، وكذلك في أزمة هويةٍ. شعر روس كثيرون بأن زعماءهم خانوهم سياسياً، وخيّبوا آمالهم بنمطهم الاقتصادي المغالي في الليبرالية، فباتوا وقد زالت أوهامهم من الديموقراطية القناع، أو الديموقراطية الواجهة.
ومن الجانب الغربي، أخلّ القوم بين أنفسهم ومراودة تفسير سقوط النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفييتي، الذي جاء نتيجة سيروراتٍ داخلية، بأنه مجرد استسلام لخصم استراتيجي. أفضى هذا التفسير الخاطئ إلى نتائج سيّئة؛ ذلك أن سياسة البلدان الغربية إزاء روسيا الجديدة ظلّت رهينة تيارين إيديولوجيين قويين (المحافظون الجدد الأميركيون، وممثلو "أوروبا الجديدة" في الشرق) الذين لم يكونوا مهتمين، كلٌ لأسبابٍ تختلف عن الآخر، بتشجيع التقارب بين روسيا وأوروبا.
وإذا كانت بواعث البولونيين والهنغاريين والبلطيق وشعوبٍ أخرى انعتقت لتوها من السيطرة السوفييتية، بديهية، إلا أن مواقف الصقور الأميركيين كانت تعكس عجزهم عن الخروج من أغلال الحرب الباردة، فقد عاشوا نهاية تلك الحرب، كما لو كانت ترجمةً لحلمهم في ترسيخ سيطرة الولايات المتحدة الأميركية على العالم، نهائياً وإلى الأبد.
تستعيد هذه "الأطلسية الجديدة" استراتيجية "الاحتواء" القديمة التي ولِدت غداة الحرب العالمية الثانية. أما منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) والاتحاد الأوروبي، فسارعا إلى ملء "الفراغ الاستراتيجي" الذي أوجده تواري الاتحاد السوفييتي في شرق أوروبا. وهكذا، فإن "دزينة" من البلدان التحقت، خلال عشرين سنة، بالتحالف الأطلسي، مقربين بذلك هذا الحلف من حدود روسيا. وكان ينبغي للأخيرة أن تقف وتشاهد، عاجزةً، تصرفات منظمة حلف شمال الأطلسي، أو بعضٍ من أعضائه، وترى الأعمال أحادية الجانب لبلدانٍ كانت هي حاضرة فيها: في البلقان (يوغوسلافيا وكوسوفو) وفي الشرق الأوسط (أفغانستان، العراق، ليبيا).
ارتكب القادة الغربيون خطأً جسيماً، حين اعتقدوا أن روسيا نفسها، وبما هي حقيقة تاريخية واقتصادية واستراتيجية وثقافية، ستختفي عن المسرح الدولي، مع زوال الاتحاد السوفييتي؛ ثم استثار التحوّل الما بعد سوفييتي الصعب، لدى بعضهم، بعض مشاعر الحنين إلى الحقبة المنصرمة؛ كما أثار، لدى بعضٍ آخر، أهواءً قومية وأحلاماً ثأرية. كان هذا الإحباط يدفع المراقبين المتنبهين إلى مقارنة روسيا سنوات 2000، بألمانيا الفايمارية، أي ألمانيا سنوات 1920.
وفلاديمير بوتين الذي يعتبر كما نعلم، "زوال الاتحاد السوفييتي أعظم كارثة جيوبوليتيكية في القرن العشرين"، هو ممثل هذا الماضي السوفييتي، والناطق باسم الإهانات التي تعرّض لها المجتمع الروسي. وقد فهم بادئاً، كاستراتيجي ماهر وبراغماتي، أن على روسيا أن تتمسّك، من أجل اللعب في ساحة الكبار، بشركائها الغربيين.
"تبدي موسكو البوتينية على نحو مكشوف، وبصورة تزداد وضوحاً يوماً بعد يوم، تصميمها على رفض النظام العالمي الذي انبثق منذ نهاية الحرب الباردة، وجرى إهمال مصالحها فيه"
هكذا، فقد رأينا "فلاديميرات بوتين" عدّة يتعاقبون، الواحد بعد الآخر، على المسرح السياسي خلال بضع سنوات: بوتين "الأميركي" في لحظة "11 سبتمبر" في العام 2001، المستعد لأن يعرض على الرئيس الأميركي جورج بوش الابن، تعاونه الكامل في وجه القاعدة؛ ثم بوتين "الأوروبي" الذي يشارك الرئيس الفرنسي جاك شيراك والمستشار الألماني غيرهارد شرويدر رفضهما التدخل الأنكلوساكسوني في العراق. والحال هو أن أياً من المحاولتين (لا الأميركية ولا الأوروبية) أتاحت له مأسسة علاقات سياسية ذات ديمومةٍ مع الغربيين، تسمح بإدماج روسيا الما بعد سوفييتية في نادي "أصحاب القرار" الضيّق. وقد استخلص الرئيس الروسي من هذه التجربة درساً في السياسة الواقعية، اعتباراً من اللحظة التي تتوقف فيها روسيا اللاشيوعية عن أن تمثل تهديداً وجودياً للغرب، فإنها، خلافاً للاتحاد السوفييتي، لا تعود تهمّ هذا الغرب، لا هي، ولا همومها الاستراتيجية.
 
فشل المشروع الأور - آسيوي
وإذا كان بوتين قد انتظر عام 2007 ليتحدّى النظام الدولي على نحوٍ مكشوف، فذلك لأسباب عدّة، أولها، أن الزعيم الروسي اضطر لانتظار اللحظة التي تصبح فيها "روسياه" هو قادرة على المطالبة بالمكانة التي تعود إليها تحت الشمس، كما أن السنوات التي مرّت أقنعت الزعيم الروسي بعجز الغربيين عن إدارة الأزمات الدولية الجسيمة التي كان يعتبر أنهم مسؤولون عن استحداثها، ولاسيما في الشرق الأوسط، إدارة ذات فعالية. من هنا، كانت مطالبته بإعادة تحديد قواعد اللعبة.
لم تكن روسيا في المنطلق تريد مطلقاً أن تشنّ حرباً باردة على الغرب، فلا هي كانت تريد قطع علاقاتها الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي، ولا أن ترفض اقتراحاً توفيقياً تصالحياً من الرئيس الأميركي الجديد يومها، باراك أوباما، يهدف إلى "جبر الكسر" في العلاقات الأميركية الروسية. وحتى الحدث العابر الذي تعرّضت له هذه العلاقات، والمتمثل باندلاع الحرب الروسية الجيورجية عام 2008، ما كان لها أن تحدث اضطراباً جدياً في العلاقات بين الروس والغربيين، الواعين للعصبية الروسية إزاء إعلان الرئيس الجورجي، ميخائيل ساكاشفيلي، عن رغبته بالالتحاق بمنظمة حلف شمال الأطلسي.
غير أنّ أحداً لم يفعل شيئاً في هذه الحقبة للحيلولة دون الانزلاق نحو القطيعة. وقد كان نشر الجانب الأميركي عناصر من النظام المضاد للقذائف الصاروخية "الباليستية" (ABM) العتيد (الذي لطالما كان بالنسبة للروس بمثابة التلويح بإشارة خطر والمبادرة ببادرة استفزاز) ومواصلة الأميركيين نصبه، والاقتراب به من الحدود الروسية في أوروبا الشرقية، ليفاقم الأمور. وأما الاتحاد الأوروبي، فإنه لم يعر أي انتباه لمبادرة "هلسنكي II"، ولا لاستخلاص وصوغ منظومة إجمالية "للأمن الجماعي الأورو- أطلسي" التي عرضها ميدفيديف إثر النزاع الروسي- الجيورجي. كما أن لجنة بروكسيل لم تستطع أن تعرض على روسيا الشراكة الاقتصادية التي كانت ترغب بها، والتي كانت تحتاج إليها حاجةً حيويةً لتأمين تحديث البلاد. فكان يكفي، في هذا السياق، أن تنشب أزمة جديدة، حتى ولو كانت أطرافية، لتحطّم نهائياً ما كان قد تبقى من ثقةٍ بين روسيا ونظرائها: وهذا ما عناه التدخل في ليبيا العام 2011.
"الدعم الذي يقدّمه الجيش الروسي لنظام بشار الأسد لا يمثل، بالنسبة إلى الرئيس الروسي، هدفاً عسكرياً أو استراتيجياً، وإنما هو وسيلة لتسجيل نقاط سياسية محدّدة تماماً"
وقد فسرت روسيا النتيجة التي أفضت إليها هذه العملية، مع التصفية العنيفة لمعمر القذافي، بأنها نمط "تغيير نظام" يمكن أن ينال منها هي ذات يوم. وكانت هذه القراءة "الذُهانية الهذيانية الاضطهادية" تعكس هاجس القادة الروس الذين كانوا يرون يد الغرب في كل مكان، من الانتفاضات الشعبية في "الربيع العربي"، إلى الثورات "الملوّنة" في الأطراف المتاخمة لبلدانهم.
وكانت النتيجة الأولى للحدث الليبي قرار فلاديمير بوتين، غير المتوقع، حتى من روسٍ كثيرين، استبعاد ميدفيديف "الضعيف" الذي ترك نفسه يقع ضحية خداع الغربيين، وأخيراً العودة إلى قيادة البلاد رئيساً لولاية ثالثة.
هنا، جاءت تظاهرات الشارع المهمة في موسكو ومدن روسيا الكبرى الأخرى التي قامت بها المعارضة، وغذّت بدورها العقد المعادية للغرب لدى السلطات الروسية، وأسهمت في تصلّب النظام على أساس قومي.
وفي الميدان الدبلوماسي، لم يكن فلاديمير بوتين يريد التصالح مع نظامٍ دوليٍّ لا تلعب فيه موسكو سوى دور ثانوي، وتكون مكرهةً على الانصياع لقواعد لا يحترمها قادة العالم أنفسهم. وبهذا، تعرّض توجّه السياسة الخارجية لتغييرات جذرية، فمشروعات التوأمة السياسية مع الاتحاد الأوروبي، أو مقترحات "هلسنكيII" التي صاغها ميدفيديف، جرى التخلي عنها. وبدلاً من روسيا التي طالما أحبت أوروبا، سُنَّةً وتقليداً (أي منذ بطرس الأكبر حتى ميخائيل غورباتشيف ومشروعه في "الدار المشتركة")، فإن العالم سيكتشف روسيا "الأوراسية".
وكما لو أن الأمر كان أمر تطبيق مبدأ مونرو الأميركي الشهير، بعد وفاة صاحبه بقرنين، على الفضاء الما بعد سوفييتي (لمنع التدخّل هنا، مثلما منعت الولايات المتحدة أيام مونرو من التدخل في قارتها ودائرة نفوذها)، فإن استراتيجية الاتحاد "الأورآسيوي" الذي أعلنه بوتين في أكتوبر/ تشرين الأول 2011، كان يفترض به أن يجمع حول روسيا النواة الصلبة من الاتحاد السوفييتي السابق: روسيا البيضاء، كازاخستان، وبالتأكيد أوكرانيا. كان رجل موسكو القوي يريد، في الواقع، أن يحمي ما تبقّى من الحيِّز أو من "الفضاء" الموالي للسوفييت، من محاولات "القضم" التي تأتي في آنٍ معاً، من الغرب (الاتحاد الأوروبي، منظمة حلف شمال الأطلسي) أو من الشرق (الصين وشهوتها الجارفة لبلدان آسيا الوسطى). ووفقاً لموسكو، كان ينبغي للاتحاد الأورو - آسيوي أن يصبح قطباً جديداً جيو- استراتيجياً مستقلاً قادراً على منافسة مراكز القوى الأخرى.
يبقى أنه، حتى لو أنكر القادة الروس عزمهم على إعادة بناء الاتحاد السوفييتي السابق، فإن مشروع بوتين "الدفاعي" الأوراسي، يثير الريب والشكوك لدى الغربيين، بحيث أن وزيرة خارجية الولايات المتحدة حينذاك، هيلاري كلينتون، لم تتردّد في الخطاب الذي ألقته في ديسمبر/ كانون الأول 2012، أمام منظمة الأمن والتعاون الأوروبي (OSCE) من وصف مشروع الاتحاد الأوراسي، بأنه محاولة إعادة "سفيتة"، وتعهدت "بإفشاله".
والحال أن مشروع بوتين الكبير تبدّد وذهب ضحية عاملين، لم يتوقعهما الرئيس الروسي: الانهيار الذريع لأسعار برميل النفط والثاني الردّة الأوكرانية.
"خسارة" أوكرانيا، القطعة الرئيسة من حلم بوتين جرى الإعلان عنها في أفق توقيع الرئيس الأوكراني حينذاك، فيكتور إيانوكوفيتش، لاتفاق شراكةٍ بين بلده والاتحاد الأوروبي، في نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني 2013. ومن هنا، محاولة الرئيس الروسي الغاضب إنقاذ اتحاده في اللحظة الأخيرة، بعرض 15 مليار من المعونة في 17 ديسمبر 2013، غير أن التغيير المفاجئ في موقف إيانوكوفيتش أثاراندلاع بركان ميدان، فبعد ذلك بشهرين، استولت شريحة راديكالية من المجتمع الأوكراني، هي أكثر عداء للروس مما هي موالية للأوروبيين، على مقاليد الأمور في كييف. ومنذ ذلك التاريخ، أصبحت الأزمة الأوكرانية التي كانت، في البداية، نزاعاً "عائليا" روسياً - أوكرانياً بالنسبة إلى موسكو، مسألة تندرج في جدول أعمال العلاقات الإستراتيجية مع الغرب.
وفي سياق انهيار أسعار النفط الذي أعلن سقوط الاقتصاد الروسي، استغلت السلطات الروسية الأزمة الأوكرانية لتوسّع قاعدتها الوطنية بتعبئة المشاعر القومية ضد "التهديدات الخارجية". ولم يتردّد بوتين، وهو يقدّم روسيا هدفاً يستهدفه الغربيون، بالتذكير بالسنن والتقاليد الإمبراطورية الروسية. ففي خطابه السنوي أمام مجلس الدوما في 2014، عمد إلى التأكيد على وجه الخصوص على: "سياسة احتواء روسيا التي تواصلت في القرون الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين، ولا تزال تتواصل. إنهم ما فتئوا يحاولون دفعنا إلى زاويةٍ وحشرنا فيها، لأن لنا موقفاً مستقلاً، ندافع عنه، ولأننا نسمّي الأشياء بأسمائها، ولا نلعب لعبة المنافقين والمرائين". هذه الرواية للتاريخ التي تقدّم روسيا "قوة عظمى منعزلة متوحدة"، محاطة بالأعداء الأزليين، لأنها فخورة ومستقلة، تسمح للرئيس الروسي بأن يبرّر عزلته على المسرح الدولي، وأن يشيد بالمشاعر القومية، ويزيد من لحمة المجتمع، في جوٍ يذكّر بأجواء "القلعة المحاصرة".
"روسيا توشك أن تعاود الانتكاس والانكفاء إلى الاكتفاء الذاتي، وإلى أحلام الثأر التاريخية الغائمة الملتبسة من بقية العالم"
 
هرب إلى الوراء
وإذ جرى توقيع العقوبات على روسيا، واستبعدت من مجموعة الدول الصناعية الثماني (G8)، وفقدت ورقتها الاستراتيجية الرابحة التي هي وضعيتها قوة طاقوية عظمى، فإن روسيا بوتين تحاول الإفلات في ضربٍ من "الهرب إلى الوراء": محاولة العودة إلى عالم عظمتها السالفة، عندما كانت لا تزال سوفييتية، وتؤخذ بمزيدٍ من الاعتبار، لأنها كانت تخيف. وفي حنينها إلى زمن العالم ثنائي القطبية، الذي كان الاتحاد السوفييتي فيه "جبّاراً" شان الولايات المتحدة، فإنها لا تتردّد في الاستدارة نحو الحجة الرئيسة المستخدمة في لعبة "الكباش"، أو ليّ الذراع بين القوتين الأعظم في فترة الحرب الباردة  الخوف النووي أو الرعب النووي. وقد سبق أصلاً أن جرت العودة، في العقيدة العسكرية الروسية التي تقرّرت في العام 2010، إلى الحق في "الضربة النووية الوقائية أو الاستباقية".. وجاء في سياق هذه العقيدة أن "من حق روسيا استخدام السلاح النووي من أجل حماية نفسها وحلفائها، أو في حال التعرّض لتهديدات بتدمير الدولة".
وقد سبق لفلاديمير بوتين أن قام، إبّان ولايته الرئاسية الثانية (2004-2008)، بحملة تحديث للجيش الروسي؛ فبدلاً من الفِرق التي لا تستطيع العمل إلّا بالتعبئة الكثيفة للجند الاحتياطيين رديئي التحضير، فإنه جرى إنشاء وحدات متحركة، وألوية أصغر حجماً. وفي العام 2011، جرى الإعلان عن برنامج إعادة تسلح يمتد إلى العام 2020، وقيمته 718 مليار دولار. وفي 31 ديسمبر/ كانون الأول 2015، وافق الرئيس الروسي على عقيدة أمن قومي "للمدى الطويل"، تؤكد منزلة روسيا ومرتبتها "واحدةً من القوى العظمى القيادية العالمية".
والظاهر أنه إذا كان هدف بوتين إعادة بلاده إلى المسرح العالمي، بالتعادل والتساوي مع الولايات المتحدة، كما في زمن الحرب الباردة، فإنه لا يتردّد في العودة بالعالم إلى الوراء، إلى حقبة بات الكثيرون يعتبرونها غابرة متصرّمة.
هكذا، فإنه خلافاً لإعلان غورباتشيف في مالطة في ديسمبر 1989، في لقائه مع جورج بوش (الأب)، أن قادة الاتحاد السوفييتي لم يعودوا يعتبرون الولايات المتحدة خصماً لهم، فإن العقيدة العسكرية الروسية باتت تشير، بعد "تجديدها"، إلى الولايات المتحدة "تهديداً لأمن البلاد". كما أن الرئيس أوباما لا يتردّد بوضع روسيا على لائحة المخاطر الثلاثة الأولى التي تهدّد الأمن القومي الأميركي، يلي فيروس إيبولا، لكنه يتقدم على خطر "الدولة الإسلامية". أما رئيس الأركان الأميركي، مارتن ديمبسي، فراح يقارن في منتدى أبسن، في 24 يوليو/ تموز 2014، "عدوان بوتين على أوكرانيا بغزو هتلر وستالين لبولونيا العام 1939".
ينطلق الصقور في كلا المعسكرين، ممن يحنّون إلى حقبة الحرب الباردة، وبحماسةٍ، في مباشرة الإيماء بإيماءاتٍ منسية، والتأشير بإشارات مهجورة، فوزارة الدفاع الروسية تكشف النقاب عن خطط لنشر صواريخ "إسكندر" المضادّة للصواريخ، في كالينينغراد، أي في المسورة الروسية التي تقع على ساحل البلطيق. أما قيادة حلف الناتو، فتعلن عن برنامج لنشر قوات تدخل سريع، وبناء قواعد عسكرية جديدة في البلدان الأعضاء في المنظمة، على أساس وجود "جبهة شرقية" افتراضية؛ بل إن لواءً مدرعاً أميركياً سينشر في أوروبا الشرقية، للمرة الأولى منذ نهاية الحرب الباردة.
وإذا كانت حرب الكلمات هذه تثير الشواغل، إلًا أنه لا ينبغي الخطأ في اكتناه الدلالة الحقيقية لهذا التصعيد في التوتر، فالمسألة من الجانب الروسي ليست مسألة التحضير لحرب عالمية ثالثة، أو لأزمة كوبا جديدة، وإنما هي حرب أعصاب. "العصر الذهبي" للحرب الباردة التي يحلم بها الروس هي حقبة السيادة المشتركة أو الحقبة التشاركية (الكوندومينيوم) السوفييتية الأميركية التي رسختها اتفاقات نيكسون - بريجنيف في 1972، وكانت تضمن لكل فريق، عبر التأكيد على تساويهما النووي، حرية التصرف في منطقة نفوذه.
ويقيناً أن روسيا التي تجد نفسها في وضعيةٍ دفاعيةٍ تدافع فيها عن "الخطوط الحمر" التي تعتبرها حيويةً لأمنها (القوقاز، القرم)، إلّا أنها تستطيع البرهنة عن تروّيها، وأن تتلافى حدوث قطيعةٍ لا عودة عنها مع العالم الغربي، بإرسال علاماتٍ عن عزمها على العودة إلى التعاون المخلص، عندما تؤخذ مصالحها بالاعتبار، ذلك أن الكرملين واعٍ أن آفاق الانتعاش الاقتصادي في روسيا ترتبط بالتعاون مع أوروبا والولايات المتحدة.
وبمجرد الحصول على ضماناتٍ من الغربيين، تضمن عدم دخول أوكرانيا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الأمر الذي أكدته تصريحات الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وتضمن قيام ضرب من الفيدرالية فيها، يضمن احترام الاستقلال الذاتي للمناطق الناطقة باللغة الروسية، فإن بوتين يبدو مستعداً لضمان وحدة أراضي هذا البلد. وكذلك الأمر فيما عنى العمل العسكري الروسي في سورية.
دخلت روسيا في النزاع السوري في 30 سبتمبر/ أيلول 2015، مستخدمة قوتها هناك استخداماً أخاذاً. وما أدهش الغربيين حينها هو الانطلاق المفاجئ للعملية، مثلما كانوا مندهشين بعد ذلك بخمسة أشهر، من الإعلان الذي لم يكن متوقعاً لوقفها، غير أن منطق هذا السيناريو يصير أدنى إلى الفهم وأقرب، إذا ما انتبهنا إلى أن الدعم الذي قدّمه الجيش الروسي لنظام بشار الأسد لا يمثل، بالنسبة إلى الرئيس الروسي، هدفاً عسكرياً أو استراتيجياً، وإنما هو وسيلة لتسجيل نقاط سياسية محدّدة تماماً. فقد توصلت روسيا، بهذه العملية، إلى أن تصير لاعباً لا يمكن الالتفاف عليه في إدارة أزمة دوليةٍ جسيمة. وقد أظهرت حرب بوتين الكثيفة الخاطفة في سورية أنه كان للعمل الفعّال الذي أدّاه العسكريون الروس، خلال بضعة أشهر، فعالية تفوق التي أظهرها الغربيون في أربع سنوات. وهو بهذا يبيّن أن مُرَكبَهُ العسكري الصناعي حقّق قفزة نوعية في مجال التحديث، ما جعل طموحات موسكو السياسية الجديدة أكثر صدقيّة.
وقد تمكّن بوتين من حمل واشنطن على العودة إلى صيغة "جنيف 2" التي تقضي بحصول مفاوضاتٍ بين نظام الأسد والمعارضة، عندما فرض نفسه شريكاً سياسياً لا غنى عنه. وعلى هذا، فإن الانتصار الأخّاذ الذي حققه بوتين، هو العودة إلى الإدارة ثنائية الأطراف للنزاع السوري، أي بين الروس والأميركيين، محجّماً الأوروبيين الذين تحوّلوا ممثلين ثانويين صامتين (أو كومبارس). وهذه كلها تغيرات يشهد عليها قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بتاريخ 23 فبراير/ شباط 2016، على أساس مشروع روسي - أميركي مشترك. وهكذا، تخرج موسكو من لعبة المقامرة العسكرية السياسية هذه، قوة عظمى، يجب أخذها بالاعتبار.
ثم إن واقعة تمكّن الروس والأميركيين من التغلّب على تبايناتهم، وتنسيق مجهوداتهم في الصراع ضد "الدولة الإسلامية"، تشير بوضوح إلى أن ثمة فرصة لوضع حدّ لفترة التجميد التي كانت بين الطرفين اللذين تواجها فيما مضى من أيام الحرب الباردة. وعلى هذا، من الممكن الاعتقاد بأن الروس والأميركيين قد يجدون وسيلةً لوضع منافساتهم وسخطهم المتبادل جانباً، من أجل إيجاد الوسائل لقيام تعاون جدّي في الموضوعات ذات الاهتمام المشترك،
"أوباما لا يتردّد بوضع روسيا على لائحة المخاطر الثلاثة الأولى التي تهدّد الأمن القومي الأميركي، يلي فيروس إيبولا، لكنه يتقدم على خطر "الدولة الإسلامية"" كانتشار السلاح النووي، وخطر وصول يد المتطرفين إلى أسلحة التدمير الشامل، وكذلك لأزمة المناخ والاحتباس الحراري خصوصاً. ثم إن توقيع اتفاق تفكيك أسلحة النظام السوري الكيماوية في 14 سبتمبر 2013، والحل الذي تمّ إيجاده للنووي الإيراني يؤكد أن ذلك ممكن.
في المقابل، إذا ما ضيَّع الغرب مرة جديدة فرصة إرساء روسيا، وربطها بباقي أوروبا، فإن نتائج ذلك بالنسبة للوضع الدولي، ولتطوّر البلاد الداخلي، ستكون مأسويةً، ذلك أن روسيا توشك أن تعاود الانتكاس والانكفاء إلى الاكتفاء الذاتي، وإلى أحلام الثأر التاريخية الغائمة الملتبسة من بقية العالم.
وإذا ما شجعها نجاح عمليتها في سورية، واستفادت من تهافت السياسة الغربية، فإنه قد يحلو لموسكو أن تتخيّل أن روسيا تستطيع، وهي قطب القوة الثاني في العالم، أن تملي القواعد الجديدة للعب على السياسة الدولية. وعلى أي حال، سبق لوزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أن أشار، في مؤتمر صحفي، إلى الوضع المستجد في علاقات روسيا مع شركائها الغربيين، إذ صرّح إنه لا عودة إلى "الأعمال (بزنس) كالمعتاد"، أي أن روسيا لم تعد تشعر بأنها مرتبطة ببعض الاتفاقات السابقة، طالما لم يُعد التفاوض عليها مجدّداً، على أساس الحقيقة العيانية الجديدة والواقع الطارئ المستجد. ووفقاً للافروف، المسألة هنا حقيقة عالَم أو واقع عالَم "متعدّد المراكز"، سيكون الغرب مضطراً للاستكانة إليه والقبول به، عاجلاً أم آجلاً؛ ثم إنّ تزايد لجوء موسكو إلى أدوات "القوة الصلبة" يجعل من سلوكها على المسرح الدولي شيئاً يصعب التنبؤ به.
وإذ اعتبر نظام بوتين نفسه في حالة حربٍ سياسية مع الغرب، فإنه لا يتردّد في البحث عن دعم لدى مختلف التيارات السياسية والأنظمة المستعدة للاعتراض على النظام الدولي الحالي. والمسألة هنا هي مسألة تحالف يضمّ ما هبّ ودبّ، ويتكوّن من تياراتٍ قوميةٍ وسياديّةٍ من مختلف المشارب والاتجاهات، ومن قادة أنظمة سلطوية أو متسلّطة، تجد، في روسيا الحالية، ليس مجرد حليفٍ ظرفي وحسب، بل ومثالاً تتقلده."المشروع المحافظ" البوتيني، يُغري أقصى اليمين الأوروبي، والتيارات المعادية للغرب في مناطق أخرى من العالم.
وهكذا، فإنه بعد الثورة الروسية التي "هزّت أركان العالم" في العام 1917، ها هي روسيا البوتينية تستعد لقيادة "ثورة مضادة محافظة"، تؤلّف بين قوى رجعية ومعادية للديمقراطية، وتعارض مسار العولمة أو سيرورتها، وتعتبرها إما غطاء لمؤامرة غربيّة أو تهديداً للقيم القومية التقليدية أو انتهاكاّ للنفوذ ومواقعها فيه.
وقد يبدو هذا مثل معارك تجاوزها الزمن، تخوضها قوى الماضي في وجه مسيرة التاريخ المحتومة، غير أن المشهد السياسي العالمي معقد. والعالم الذي هو قيد الانبثاق تحت أنظارنا، هو أبعد من أن يكون وحيد اللون، كما يشاء دعاة "العولمة السعيدة" ومروجوها، ما يعني أن دور الغرب كتجسيد طبيعي لتقدم البشرية يلقى مزيداً من المعارضة والاعتراض.
لا زال العالم الجديد يبحث عن نفسه، ويحاول تحديد ذاته، وإيجاد تعريف لها. لم يتحدّد خيار روسيا في هذا المسار، وهذه السيرورة، نهائياً. وهي تتردّد بين العودة إلى تحالف طبيعي مع أوروبا ومراودة تكوين كتلة معادية للغرب مع الصين، وأفق التموضع ناطقاً رمزياً باسم الدول الصاعدة.
وللغرب المصلحة كل المصلحة في أن يأخذ روسيا إلى جانبه في هذا المسار؛ ذلك أنه إذا ما انقطعت علاقاته بروسيا، انقطاع رباطات مدفع، بما يجعله يفلت من الموقع الذي يحتله على سطح سفينة إبّان هبوب العاصفة، ويتركه يتدحرج في كل اتجاه، فإنه يوشك أن يُحدث أضراراً، وأن يشكّل خطراً على المحيطين به.
إعداد أحمد فرحات