الرئيسة \  واحة اللقاء  \  رسالة أوجالان: قراءة إضافية

رسالة أوجالان: قراءة إضافية

18.05.2019
بكر صدقي


القدس العربي
الخميس 16/5/2019
تحتاج الرسالة المقتضبة التي وجهها عبد الله أوجالان إلى الرأي العام، في السادس من شهر أيار الحالي، إلى مزيد من التحليل بسبب شبكة التعقيدات المحيطة بظرفها. فقد صدرت في وقت تصارع فيه القيادة التركية مجموعة من التحديات الداخلية والخارجية، من شأن إلقاء نظرة متكاملة عليها أن يضيء معانيها والغرض منها بصورة أفضل. فإضافة إلى توقيت الإعلان عن مضمون الرسالة الذي تزامن مع قرار الهيئة العليا للانتخابات بإلغاء نتائج انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول وتحديد موعد لإعادتها، هناك مجموعة من المشكلات الضاغطة على الحكومة بحاجة إلى اتخاذ قرارات حاسمة بشأنها، في الاقتصاد والسياسة الخارجية، ويداها مقيدتان بشروط موضوعية يصعب التأثير عليها بصورة منفردة.
ففي الشأن الاقتصادي، لم تنفع جميع محاولات الترقيع والقسر في رفع معدل النمو، أو خفض معدلات البطالة والتضخم المنفلت، ومواجهة هبوط قيمة العملة المحلية، واستقطاب الاستثمارات الأجنبية. وباتت الليرة التركية عالية الحساسية إزاء التطورات السياسية، بحيث أدى قرار إلغاء انتخابات بلدية إسطنبول، مثلاً، إلى هبوط حاد في سعر صرفها أمام العملات الصعبة.
الأزمة الناشئة أساساً عن فقدان الثقة الاستثمارية بسبب هشاشة الوضع السياسي، مرشحة للتفاقم بسبب الضغوط السياسية الخارجية المتصاعدة. نتذكر، في هذا السياق، تغريدة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الصيف الماضي، التي هدد فيها بـ"تدمير الاقتصاد التركي" بسبب الأزمة الدبلوماسية حول القس الأمريكي الذي كان محتجزاً في السجون التركية، ثم أطلق سراحه بعد حين. ليس المقصود بهذا التذكير إلقاء مسؤولية الأزمة الاقتصادية في تركيا على "الخارج الشرير" كما تحاول وسائل الإعلام الموالية أن تفعل، بل للقول إن الاقتصاد التركي مفتوح على مخاطر من هذا النوع بسبب السياسة الاقتصادية المتبعة التي تتحمل مسؤوليتها الحكومة. بكلمات أخرى السياسة المتبعة هي التي تجعل من تهديد ترامب المذكور أمراً قابلاً للتحقيق. وليس المقصود أيضاً انتقاد الليبرالية الاقتصادية المنفتحة على العالم، بقدر ما يتعلق الأمر بأن لهذا الخيار مستتبعاته السياسية، فلا يمكن أن تربط اقتصادك بروابط استثمارية وتجارية مفتوحة مع العالم الليبرالي، وتتنكر لقيمه ومعاييره وتحالفاته السياسية، في وقت واحد.
هناك "باب خلفي" للدبلوماسية بين واشنطن وأنقرة، فتح منذ فترة قصيرة، بعيداً عن القنوات الرسمية غير النشطة. من المحتمل أن أنقرة تسعى لترميم العلاقات المتوترة مع واشنطن، لتقوية موقفها إزاء موسكو
هنا تحضر أزمة صفقة صواريخ أس 400 الروسية التي تعترض عليها واشنطن، وقد أدخلت أنقرة نفسها في ورطة حقيقية بعنادها على إتمام هذه الصفقة. فالأمر، من وجهة نظر واشنطن، لا يتعلق بإحدى نزوات ترامب الخطرة، بل بقانون صادر من الكونغرس الأمريكي يتضمن فرض عقوبات على تركيا في حال اشترت الصواريخ الروسية. ومن المحتمل أن تتضمن حزمة العقوبات هذه فرض حظر على بيع تركيا قطع غيار لطائرات أف 16 الأمريكية المقاتلة، ناهيكم عن إلغاء بيعها طائرات أف 35 المتطورة التي شاركت تركيا في انتاجها، وعقوبات اقتصادية أخرى. كذلك تركيا مهددة بفرض عقوبات اقتصادية عليها إذا خرقت الحصار النفطي التام المفروض مؤخراً على إيران، علماً أن تركيا تتزود بنصف حاجتها من النفط والغاز من إيران.
بوتين مستعجل لإتمام صفقة الصواريخ في أقرب وقت، وقد بدأ تدريب الكوادر العسكرية التركية على استخدامها هذا الأسبوع، ويتردد أن التسليم سيتم في شهر تموز المقبل، بعدما كان مقرراً تسليمها في الخريف. فبوتين يسابق الزمن خشية انهيار صمود أردوغان أمام الضغوط الأمريكية الكبيرة لإلغاء الصفقة، على رغم تصريحاته المتكررة حول عدم التراجع عنها.
وجاء تصعيد الهجوم الروسي ـ الأسدي على منطقة "خفض التصعيد" الرابعة في إدلب وجوارها ليشكل ضغطاً إضافياً على تركيا المنشغلة بخلافها الداخلي حول رئاسة بلدية إسطنبول، وقد حولها أردوغان إلى "أم المعارك" على السلطة السياسية. وثمة خلاف مستجد ومرشح للتصعيد بشأن عمليات التنقيب عن الغاز التي بدأتها تركيا في شرقي المتوسط مؤخراً، واعترضت عليها قبرص، فوجدت تركيا نفسها في مواجهة اليونان والدول الأوروبية والولايات المتحدة معاً. وإذا كانت روسيا صامتة، إلى الآن، حول هذا الخلاف، فمن المحتمل أن تنحاز فيه إلى قبرص ضد تركيا، إذا طرح موضوع الخلاف في الأطر الدولية المعنية. ما علاقة كل ذلك برسالة أوجالان؟
بدت رسالة أوجالان، في المشهد السياسي الداخلي، كحجرة رميت في ماء راكد. قبل كل شيء هي ورقة لعبها أردوغان لتغيير معادلات قائمة تضيّق عليه الخناق، بأبعادها الداخلية والخارجية الموصوفة أعلاه. فقد كان بإمكان السلطة الاستمرار في عزل أوجلان عن العالم الخارجي كما هي الحال منذ 8 سنوات. وكان بإمكانها منع خروج الرسالة التي مرت عبر حواجز إدارة السجن ووزارة العدل والحكومة والقصر جميعاً. بل إن مضمون الرسالة في جانبيها الداخلي والسوري هو مما أراد أردوغان إيصاله إلى الرأي العام للتأثير على وجهة الأحداث بالطريقة المرغوبة.
لقد عملت السلطة، طوال السنوات الماضية، على تأجيل الاستحقاقات الكبيرة وكسب الوقت على أمل تغير الظروف. الآن آن أوان تلك الاستحقاقات، ولم يعد هناك المزيد من الوقت. بكلام أوجالان حول "وجوب أخذ الهواجس الأمنية لتركيا بعين الاعتبار" أراد أردوغان أن يقول لواشنطن إنه مستعد للتفاهم مع "قوات سوريا الديمقراطية" حول إنشاء منطقة آمنة، بشرط اعتبار الهواجس المذكورة. وبإحالة الرسالة إلى "أسس عملية السلام" التي انقطعت في 2015، والدعوة إلى "تعميقها" أراد أردوغان القول إن المشكلة الكردية قابلة للتفاوض حولها، على جانبي الحدود بين تركيا وسوريا. صحيح أن أردوغان نفى، في اليوم التالي على إعلان رسالة أوجالان، أي نية للعودة إلى "عملية السلام" لكن الفكرة تفاعلت في الرأي العام. ومثلها حديثه، قبل أسبوعين، عن وجوب قيام ما أسماه بـ"تحالف تركيا" لخفض التوتر الداخلي الناشئ عن الخلاف على رئاسة بلدية إسطنبول.
هناك "باب خلفي" للدبلوماسية بين واشنطن وأنقرة، فتح منذ فترة قصيرة، بعيداً عن القنوات الرسمية غير النشطة. من المحتمل أن أنقرة تسعى لترميم العلاقات المتوترة مع واشنطن، لتقوية موقفها إزاء موسكو. رسالة أوجالان، من هذا المنظور، هي إشارة لتحولات سياسية كبيرة قد تبدأها أنقرة بعد انتخابات الإعادة في إسطنبول في حزيران/يونيو القادم.