الرئيسة \  واحة اللقاء  \  رسائل بشار إلى لوبن وآخرين 

رسائل بشار إلى لوبن وآخرين 

15.11.2020
عمر قدور



المدن 
السبت 14/11/2020 
خالف بشار الأسد مألوف عاداته، فكلمته في افتتاح "المؤتمر الدولي حول عودة اللاجئين" كانت قصيرة ومنضبطة، لا توقفات للشرح والثرثرة وزلات اللسان المعتادة، ولا خروج عن النص لأسباب انفعالية يفضح الابتذال الذي كان يتوارى وراء النص المكتوب. لا نعلم ما إذا كان أحد ما كتب نص الكلمة، أو أن أحداً ما ضغط لتكون مختصرة ومترابطة؛ الأهم أننا أمام كلمة يوجهها بشار من موقعه "ولو بالنيابة عمّن يتحكم بالموقع"، والكلمة غير موجهة أصلاً للحاضرين، بل هي مخصصة في المقام الأول لمقاطعي المؤتمر.  
أصرت موسكو على انعقاد المؤتمر، وأذاعت خبر لقاء بتقنية الفيديو بين بوتين وبشار تمهيداً له، أو "كما ينبغي فهمه" هو لقاء ليتلقى بشار توجيهات الكرملين. الإصرار الروسي على عقد المؤتمر، مع المقاطعة الغربية، لا يعكس رغبة في إنجاحه، إذ كان ممكناً مثلاً تأجيله بهدف توفير سبل أفضل لإنجاحه، ولو نصف أو ربع نجاح. حتى اختيار موعد ضمن فترة انتقالية أمريكياً ليس فيه استغلال للانشغال الأمريكي بقدر ما يضمن تجاهلاً أمريكياً تاماً، فضلاً عن موقف العديد من القوى الأوروبية والمنظمات الدولية التي تتناغم سياساتها مع الإشارات الآتية من واشنطن.  
حسب ما أُعلِن كانت تركيا هي الدولة الوحيدة التي لم توجه لها الدعوة للحضور، وهذا الإعلان يعبر جيداً عن الفشل في استقطاب كل هؤلاء المدعوين، باستثناء من يجوز اعتبارهم جهة منظمة "وهم موسكو وطهران وبكين" مع آخرين يجوز التغاضي عن ذكرهم. أنقرة، غير المدعوة، كانت الأكثر حضوراً في كلمة بشار الأسد. الهجوم على أنقرة ليس بالجديد تماماً، لكنه هذه المرة كان ممنهجاً بحيث لا ينفث عن غضب كالمعتاد، وإنما يحاول التسلل إلى سياسات غربية مناهضة للسياسة التركية الحالية. يستحضر بشار حتى المجازر التي حدثت قبل قرن، بذريعة استضافة سوريا اللاجئين منها، للقول أن جهة إقليمية وحيدة هي التي ارتكبت مجازر "عرقية أو طائفية"، بعد تنزيه التاريخ السوري عن أحداث مشابهة، والتنويه على نحو خاص بالحقبة الأسدية التي يشير إلى توقيتها مواربة بنهاية الستينات.  
يقدّم بشار أوراق اعتماده إلى حكومات غربية تشتبك الآن مع سياسات أردوغان، ويرضي بالطبع جهات إقليمية " مثل السعودية والإمارات المعاديتين لأردوغان أيضاً" واللتين يحتاجهما للتأثير في دوائر السياسة الأمريكية، فضلاً عما هو منتظر منهما على صعيد الدعم المالي لإعادة الإعمار. هي رسالة إذا لم تنفع مع الحكومات فربما تصل "أو يُشتغل على إيصالها" إلى جزء من الرأي العام الغربي المتعاطف مع الأرمن والأكراد ضد السياسات التركية، وتوقيتها مناسب لجهة تسخين الموضوع الأرمني على جبهة ناغورني قره باغ والخلاف التركي اليوناني في المتوسط، مع تراجع الاهتمام بالقضية السورية والتعاطف مع أصحابها إلى أدنى حد، بل مع الأذية البالغة للقضية السورية التي أتت بها مشاركة مرتزقة "محسوبين على المعارضة من خلال أنقرة" في الحرب الليبية وفي الحرب الآذرية الأرمنية.  
أهم وأخطر مما سبق مجيءُ المؤتمر في خضم الانهماك الغربي في موضوع "مكافحة الإرهاب"، قبيل وبعد الاعتداءات التي شهدتها فرنسا ثم النمسا. ما يميز الأجواء الغربية الحالية عن مناسبات مشابهة أقدم أنها اليوم تثير توجهات جديدة متشددة في التعاطي مع اللاجئين، ومن بلدان مثل فرنسا عُرفت تقليدياً بأنها الوجه الغربي الأنصع لمناصرة قضايا الحريات والمتضررين من النضال لأجلها. إذا كان هذا المناخ قد وصل بماكرون إلى اقتراح وضع قواعد أوروبية جديدة لقبول اللاجئين، فإن منافسته يميناً "مارين لوبن" ونواباً في حزبها لم يخفوا رغبتهم في طرد اللاجئين وإعادة هندسة الديموغرافيا الفرنسية، التوجه الذي تناسبه جيداً الصفقة التي يعرضها بشار باستعادة اللاجئين مقابل مساعدات مالية ورفع الحصار عنه.  
نسميها رسائل بشار مع ترجيح ان تكون في الأصل والمنتهى رسائل بوتين الذي لولاه لما عُقد المؤتمر، فإعلام بوتين قاد خلال السنوات الخيرة حملة إعلامية "بكل اللغات الرئيسية" لمساعدة اليمين الشعبوي في أوروبا والولايات المتحدة. أقطاب اليمين، وكذلك نظراؤهم في اليسار الشعبوي، لا يخفون الود تجاه بوتين ومن المرجح انهم يضمرون الكثير من الامتنان على خدماته الإعلامية. موضوع اللاجئين السوريين في أوروبا كلها ليس بالحجم الضخم والمؤثر، لكن يمكن تضخيمه إعلامياً وتقديمه نموذجاً لحل قضايا "المهاجرين"، او على الأقل تحقيق مكاسب انتخابية لليمين الذي يحملهم مسؤولية العديد من المشاكل الاقتصادية والمجتمعية، وقبل ذلك تحقيق مكسب مهم لبوتين الذي لا يقترح فقط حلاً لقضية اللاجئين وإنما يبرر أيضاً تدخله في سوريا بتلك الوحشية التي كلما أبادت أكثر أنقذت الغرب من لاجئين محتملين.  
إذا كانت الرواية الأقرب إلى المنطق السليم هي أن التغيير الديموقراطي يتكفل بعودة قسم من اللاجئين السياسيين القدامى، ويمنع تدفق لاجئين جدد من البؤر القديمة أو الجديدة، فإن الرواية الروسية التي يُراد تكريسها هي بالضبط على الضد، ومفادها أن سجانين متوحشين وجلادين مثل بشار الأسد "برعاية من نظام مثل نظام بوتين" هم الحل الأمثل لقضية اللاجئين، الذين يُستعادوا أو يمنعوا من المغادرة أصلاً، حيث يوضعون في السجن الكبير اللائق بهم كإرهابيين محتملين. وليس بجديد أن تجافي السياسة المنطق أو الأخلاق أو الاثنين معاً، والحل الذي يقدّمه بوتين هو الأسهل لنخب غربية لا تريد الانخراط في مشروع تغيير ديموقراطي للمنطقة غير مضمون النتائج على النحو الذي يضمنه طغاة متوحشون من أمثال بشار وبوتين. على سبيل المثال، يكاد الربط بين قضيتي اللجوء والإرهاب أن يصبح أوتوماتيكياً بفضل الضخ الإعلامي، وبسببه ينعدم التمييز بين اللاجئين ليصبحوا جميعاً محل شبهة. 
لقد كنا قبل أسابيع أمام تمرين يستفيد منه بوتين بفضل الانقياد إلى الجانب الذي يُراد التركيز عليه، فعندما ارتكب عبدالله أنزوروف جريمة ذبح المدرس صامويل باتي جرى إهمال السياق الكامل للقاتل واختزاله بذلك الإسلامي المتطرف. تنسى، أو تتناسى، الأغلبية الساحقة من متابعي الحدث أن الجاني شيشاني، من بلد خضع لسياسة الأرض المحروقة التي كان بطلها بوتين شخصياً، ولولا جرائم الإبادة الجماعية تلك لما وصلت عائلته إلى فرنسا طالبة اللجوء. أبعد من تلك الجريمة، رغم غياب الإحصائيات، لا يصعب علينا ملاحظة البلدان المصدرة للاجئين في المرحلة التالية على الاستعمار، وغالبيتهم أتت من بلدان حكمها الاتحاد السوفيتي ثم روسيا أو دعما طغاتها، من دون نسيان مساهمة الصين على هذا الصعيد أو آثار العهد الكولونيالي في بعض الحالات. وكما هو معلوم، لا نفتقر إطلاقاً إلى إسلاميين وأنصار لهم تقودهم غرائزهم إلى الإرهاب أو تشجيعه، أي إلى السلوك الذي يغطي على جرائم أكبر لأمثال بوتين وبشار، بل يكاد يصنع منهما أبطالاً مشاركين في محاربة الإرهاب. 
تنظيم مؤتمر فاشل بكافة المعايير، ثم الإصرار على أنه حقق نجاحاً، لا يندرجان ضمن غباء روسي خاص. المطلوب من المؤتمر كان إطلاق تلك الرسائل التي لا يجب عزلها عن عمل الماكينة الإعلامية الروسية ككل، الماكينة التي لا تهمل تفاصيل صغيرة من نوع استخدام بشار كساعي بريد لتعليم الغرب كيفية التعامل مع اللاجئين، وصولاً إلى مستويات أرفع من الانقضاض على الديموقراطية كتصريح وزير الخارجية لافروف قبل يومين أن النظام الانتخابي الأمريكي عفا عليه الزمن، ويشوه إلى حد كبير إرادة الأمريكيين!