الرئيسة \  واحة اللقاء  \  رحلة في سورية على طرق التقسيم والموت

رحلة في سورية على طرق التقسيم والموت

28.05.2018
لامار أركندي


الحياة
الاحد 27/5/2018
لم أستقل الطائرة يوماً لأسافر جواً إلى دمشق قبل أزمة البلاد، لعلني لم أحبذ المطارات، على رغم أن الطريق الفاصل بين مدينتي والعاصمة كان منهكاً وصحراوياً يبعث الكآبة طيلة فترة الرحلة.
هي تسع ساعات بالحافلة تفصل مدينتي قامشلو عن دمشق. ينهض الملل بجبروته ليحط رحاله على عشرات الكيلومترات من المسافات التي تبتلعها دواليب الحافلة، وهي تمضي ثقيلة الظل على طريق الأسفلت الطويل. كنت أتوق لرؤية نهاية الطريق قبل انطلاقي صباحاً لأعبر تلك المساحات الطويلة والحارقة في الصيف، والضبابية الباردة شتاء، لكن من دون جدوى.
الحافلة لا تستغرق أكثر من ساعة لتصل مدينة الحسكة، وبعدها بساعتين تأتي استراحة دير-الزور والمحطة الأخرى إلى تدمر.
نعم، كنت أعشق بلور نافذتي وأنا أبعثر بناظري فوضى الرؤى لأشم روائح عبق زنوبيا. كم كانت تسحرني إطلالات تدمر القديمة من بعيد كالظلال الخادعة تلوح لي وتختفي. كانت تستحق كل تلك التأملات داخل وهج الشمس الساطعة على طرقاتها، أو في ظلام الليل حين تكون الرحلة مساء، فحينها لن يتبقى إلا ثلاث ساعات ليطل وجه الشام كالحبق بياسمينها وصوت فيروزها ورائحة القهوة المغرية المنعشة كنسائم صباحاتها الجميلة، لكنها باتت ماضياً عابراً بين ثنايا الذاكرة بعد قصقصة مدن بلدي وعصفها بعيداً عن جسد العاصمة دمشق.
لم تعد تلك المسافات مملة فقط بل مرعبة ورمادية. لم تعد تملك غير خيار واحد يدق فزعاً في مخيلتك وهو نهايتك. خيار الموت المحتوم بعيداً عن ديارك وأرضك. وإن نجوت فقد تشتهر كنجم سينمائي لامع خاض مغامرة بطولية.
في 15 آذار (مارس) 2013 كانت آخر عودة لي براً من دمشق إلى أحضان مدينتي، في رحلة استغرقت 15 ساعة، والحافلة تسير بنا على طرقات الموت المنظمة بدقة.
مررنا على 17 حاجزاً للحكومة أنهكت قوارير الانتظار والترقب داخلنا، حتى خروجنا من "الضمير"، والوجهة بعدها إلى حواجز أكثر عدة وعتاداً نمر بها حتى وصولنا إلى تدمر.
وفي كل مرة يلتفت سائق الحافلة إلينا، نحن الفتيات غير المحجبات، لينصحنا بتغطية رؤوسنا كي نضمن تذكرة عبور آمنة على حواجز المجموعات المتطرفة التي تقاسمت السيطرة مع القوات النظامية على طريق الموت.
لم يفصل بين حاجز الحكومة وحواجز الفصائل المتطرفة سوى 100 متر أو أكثر بقليل، سمحت أن يحتفظ عناصر كل منهم بملامح وتفاصيل من سبقه على الحاجز الثاني في ذاكرته، من دون تدخل من كليهما في عمل الآخر ودونما اعتباره عدواً عليه إنهاؤه، قبل أن يتكاثر كالطاعون ويفتك به. المسافرون على تلك الطرقات أدركوا معادلات العبور وخرائط السياسة وإدارة الاتفاقات ومشاريع المصالح والاقتسام.
وصلنا هذه المرة إلى الحدود الإدارية لمدينة دير الزور. كانت ألسنة اللهب والدخان تخنق المدينة، ورحنا نراقبها بصمت. وعلى الجهة اليمنى على يميننا كانت أنابيب مياه مفتوحة ضخمة وممتدة على مساحات شاسعة توازي طريقنا. وأشار السائق إليها ليقطع عشرات الاستفسارات داخلنا عن ماهيتها فقال: "إنها لحراقات النفط التي باتت منتشرة بكثافة هائلة في عمق تلك المناطق".
بدأت شعارات الفصائل المسلحة المتطرفة واضحة على جدران بعض محطات الاستراحة المهجورة على طول الطريق. تمثلت بـ "جيش الإسلام" و "أحفاد الرسول"، و "خلفاء الراشدين"، و "عمر بن الخطاب" وووو...
وقبل توجهنا هذه المرة إلى مدينة الميادين على الحدود العراقية التي لم نقصدها طيلة سفرنا إلى دمشق قبل الأزمة، تعرض لنا مسلحو فصيل آخر بأسلحتهم الخفيفة وذقونهم الطويلة المبعثرة، بسراويلهم القصيرة وقمصانهم الطويلة، تفاصيلهم ترغمك على الرجوع بالزمان 1400 سنة إلى الوراء. كانوا مسلحين وقفوا يتمازحون في ما بينهم ومناديلهم السوداء في رقابهم باستثناء واحد منهم أجهد في تغطية وجهه وعينيه بنظارات سوداء وقفازات بنية، وبين قبضتيه سلاح خفيف من نوع "كلاشنيكوف"، حاول دفع أحد العناصر لدخول الحافلة بعد إجبارها على التوقف. دخل المسلح المراهق الذي لم يبلغ من العمر 17 سنة مقهقهاً وفرحاً بسلاحه، فألقى التحية بالعامية البدوية قائلاً: "مرحبا بالربع"، لكن المسلح الملثم همس في أذنيه فأعاد تكرار التحية بالفصحى قائلاً: "السلام عليكم، هل بينكم شباب فارون من النظام أو من الخدمة العسكرية، ومن هم فوق 18 سنة، لو أراد فلينضم إلينا، إما بإرادته وإما بإرادتنا". عندها تدخّل السائق وطلب من معاون الحافلة أن يقدم لهم دفتراً بجدول أسماء الركاب وأعمارهم، فراح المسلح الملثم يراجع الأسماء، وهمس للمسلح المراهق الذي استفسر عن اسم "نوروز" ومن هو من بين المسافرين، فنهضت شابة شقراء وقالت: "أنا نوروز وأنا فتاة ولست شاباً وعمري 20 سنة"، فعاد الملثم ليعطي تعليماته واستفساراته للمسلح المتطرف الذي رد على الشابة قائلاً: "نوروز اسم شاب وليس اسم فتاة بالكردية".
ومضينا بعد محاولات حثيثة وجهد جهيد بإقناعهم بالهوية الشخصية للفتاة "نوروز"، وتساءلت كيف علم أن الأكراد يستخدمون اسم نوروز للشباب، ومن أين لهم العلم بذلك؟ وهل الملثم رجل استخبارات، إذاً فهم يعملون وفق توجهات خطيرة ستدفع بالبلاد إلى الهاوية".
واصلنا الرحلة إلى الميادين حيث الغلبة لـ "جبهة النصرة"، بأعلام عناصرها وملابسهم السوداء، يجوبون المدينة كيفما يشاؤون، بأجسامهم الضخمة وأسلحتهم الثقيلة وسياراتهم المصفحة. كانوا يشبهون رجال "المارينز" الأميركيين!
وصلنا إلى حاجزهم الأخير قبل مدخل مدينة الحسكة الذي يفصلهم عن حاجز النظام عشرات الأمتار فقط. كانت البراميل المطلية بعلمهم الأسود موزعة على مسافات فاصلة بين كل منها قرابة خمسة أمتار على عرض الطريق. مضت الحافلة بنا، ورأينا هذه المرة علم النظام مطلياً على الجانب الخلفي لبراميل "جبهة النصرة".
مررنا بهدوء على حاجز الحكومة ومنها إلى داخل المدينة، وتوجهنا صوب مدينتي التي وصلنا إلى مشارفها. كانت غارقة في ظلام دامس. لم ترهبنا عتمتها. أحسست أنني في أحضانها بأمان وسلام لن ينسلخا بسهولة عن وجهها الطفولي. تنفست الصعداء فبدا لي سواد ليل مدينة الحب الحالك جميلاً وبراقاً. خيّم سحره على كل المحطات المضيئة والكئيبة والمخيفة التي مررنا بها.