الرئيسة \  واحة اللقاء  \  ديمقراطية سورية في متاهات الذاكرة والمشروع

ديمقراطية سورية في متاهات الذاكرة والمشروع

13.06.2018
مضر رياض الدبس


العربي الجديد
الثلاثاء 12/6/2018
تطرح المقاربة التالية فكرةً نعتقد أنها أساسية وضرورية في سياق نقد البنية الفكرية والسياسية للتيار الديمقراطي السوري الذي يحاول أن يضاعف جهده هذه الأيام، وأن يحثّ خطاه في التنظير لصيغة تعاون وتوحد، يعوّل عليها للتأثير في المشهد السوري الراهن، بل ويتحدث كثيرون في سبل عقد مؤتمر ديمقراطي، وبعضهم يتحدث في عقد مؤتمر وطني... إلخ. ويتم طرح المقاربة النقدية هذه من خلال مدخليْن: الأول، دوافع وإجابات التساؤل التالي: ما الذي قدّمه الديمقراطيون السوريون من مقارباتٍ ومواقف وسلوك وعلل لوجودهم، خارج فكرة فشل خصومهم؟ ويعني بالخصوم هنا التحديد الذي يطرحه الخطاب الديمقراطي نفسه، ويحصرهم في طرفين أساسيين: النظام كخصم تقليدي بوصفه طغمويا استبداديا، فهو حكمًا مضاد للفكر الديمقراطي، والإسلاميين بوصفهم تياراتٍ دينية ماضوية، تشكل سلطويةً تقليديةً مضادة أيضًا للفكر الديمقراطي. أما المدخل الثاني فهو الحقيقة الصادمة لليوتوبيا الثورية الحالمة، والتي يعبر عنها آلان تورين، بقوله إن "طريق الديمقراطية بعيد عن طريق الثورة، كبعدها عن طريق الديكتاتوريات". ويثير هذا الطرح تساؤلًا جديًا بشأن الجدوى السياسية من تبعية التيار الديمقراطي السوري للحراك الثوري، من دون أن يتجاوزه أو يؤثر فيه.
المدخل الأول تساؤلي، تمليه المآلات الراهنة. والثاني تحليلي، يمليه التفكير في المستقبل. ويبدو أن الجواب عن سؤال المدخل الأول مرتبط بتحديد الخلل في الفكر الديمقراطي الذي تسبب به مضمون المدخل الثاني. أي أن عدم قدرة التيار الديمقراطي السياسي السوري على تجاوز الحراك الاجتماعي، والبناء عليه سياسيًا، قد أدى إلى أن يحشر نفسه في زاويةٍ، ولم يتمكّن من معرفة نفسه خارجها. فأصبح يبرّر أهميته، وضرورة وجوده، بفشل خصومه. ولأنه حشر نفسه في الزاوية عمليًا، كثرت إنتاجاته، وعلا صوته نظريًا؛ فلا تدل كثرة كلامه النظري بشأن الديمقراطية، إلا على فشله العملي، والتنظيمي، في تحقيقها؛ وتلعب هذه الكثرة دورًا في تسكين آلام ضميره، بسبب تقصيره، وفشله المتراكم على الصعيدين، الاستراتيجي والسياسي...
"يجد السوري نفسه أمام الخيار بين التخلي عن ذاكرته، أو التخلي عن مشروعه التحرّري، فإما حرٌ فاقدٌ للذاكرة، أو متذكرٌ فاقدٌ للحرية"
وفي هذا الحشر ذاتي المنشأ، يشترك الديمقراطيون، والإسلاميون. فكلٌ منهما حشر نفسه في زاويةٍ قاده إليها نمط تفكيره، وطريقة رؤيته للعالم. وبالتالي، يجد السوري نفسه أمام خطابين مختلفين شكلًا، لكنهما يشتركان المضمون نفسه، مضمونٌ يجبره على الاختيار بين الفردوية العقلانية المتطرفة التي يتوجس منها ريبةً، ولا يعرف عنها إلا اليسير؛ أو الانتماء إلى دين وطائفة، وتقليد، وإلى ذاكرةٍ جماعية، يرتاح لها وتستهويه. هو الخيار بين التخلي عن ذاكرته، أو التخلي عن مشروعه التحرّري، فإما حرٌ فاقدٌ للذاكرة، أو متذكرٌ فاقدٌ للحرية. ومع هذه الخيارات، أصبح من الطبيعي أن يكفر السوري بالثورة، وبالسياسة وبالسياسيين، وبالديمقراطية وبالديمقراطيين!
أمام هذا التوصيف، يبرز إلى الأذهان السؤال الطبيعي المعتاد، ما العمل؟ ولا إجابة لهذا السؤال إلا التي تنهي الخيارات المطلقة كليًا. بمعنى أدق، هي الإجابة التي تُمكّن السوريين من اختيار الأمرين معًا: الذاكرة والحرية. وهذا، تقدير صاحب هذه السطور، يفرض على التيار الديمقراطي، إذا أراد أن يستحق اسمه حقًا، البحث في مشروعٍ خلّاقٍ، يحقق التواصل بين الماضي والمستقبل، والبحث في إمكانية تعبئة التراث الثقافي من أجل خلق المستقبل. أما الإصرار على القطيعة، وعلى المقاربات التي تنظر بالنزعات المطلقة، فهو إصرارٌ يحمل فكرًا سلطويا منافيا للديمقراطية في جوهره، وإن بدا عكس ذلك. الإبداع الديمقراطي الذي يستحق اسمه هو ما يصنع من رغبتنا في الحرية، وإرادتنا في الحياة، فكرةً من صلب وجودنا، تستند إلى الوصل الواعي بين الحاضر والمستقبل، وبين العقل والمشاعر، لا إلى أيديولوجيات الفصل والعزل بينها. هو إبداعٌ يجعلنا نفهم ونتفهم ذواتنا، بالتوازي مع فهمنا حق الآخرين في أن يكونوا ذوات مستقلة، فالديمقراطية، في أحد أشكالها، معركة ضد التنميط لصالح التعدّدية، ولا ديمقراطية من دون تعدّدية، وهذه الفكرة بالتحديد، إن حصل ووجدت عمليًا في المشهد السوري، كفيلة بأن تعيد إلى السوريين ثقتهم بقدرتهم على صناعة تاريخهم، واستعادة هذه الثقة أمرٌ لا يقدر بثمنٍ في هذه المرحلة بالذات.
لكي يغادر هذا الكلام حيز التنظير، يجب أن يترافق بآلية تنفيذٍ، تستمد صيغتها الناجعة من الاعتراف بأن من يبني الديمقراطية، ويقوم بها، هم القوى المجتمعية الفاعلة، وتشارك النخب السياسية والثقافية، بهذا البناء مشاركةً متعاونةً لا أكثر. وهذا بالتحديد ما ينحت ثقافةً ديمقراطية سليمة، ويضعها على أنقاض ثقافة "التنظير الديمقراطي الفوقي" التي يثقل كاهلنا به من منحوا أنفسهم لقب "النخبة". ومن هنا، تأتي ضرورة انخراط السوريين في السياسة، وخصوصًا الشباب، وضرورة إسماع صوتهم، وتصميمهم على أن يكونوا معنيين بالقرارات التي تؤثر على حياتهم. هذه المسؤولية التاريخية سترسم ملامح المستقبل، فلا وجود لديمقراطيةٍ من دون إصرار العدد الأكبر على ممارسة السياسة، بل والسلطة كذلك، إن كان ذلك بصورة مباشرة أو غير مباشرة، فالتيار الديمقراطي السوري اليوم بأمس الحاجة إلى دمٍ جديد.