الرئيسة \  واحة اللقاء  \  دمقرطة السياسات الخارجية الغربية

دمقرطة السياسات الخارجية الغربية

19.06.2019
سلام الكواكبي


سوريا تي في
الثلاثاء 18/6/2019
تنتشر في الأدبيات السياسية في أوروبا في السنوات الأخيرة تبريرات "مُقنعة" لتبني نظريات الواقعية السياسية في إدارة العلاقات الخارجية للدول الأوروبية كل على حدة، كما في إدارة الجسم الإداري هائل التعقيد المخصص لها جماعةً في إطار مؤسسات الاتحاد الأوروبي. ومن أهم عرّابي هذا التوجه، أمين عام قصر الإليزيه ووزير الخارجية الفرنسي السابق هوبير فيدرين والذي خطّ في ذلك مقالات هامة رغم سخريته المرة والمستمرة من فرض القيم الأخلاقية واتباع مبادئ حقوق الإنسان في رسم العلاقات بين الدول.
ومع بدء ثورات الربيع العربي، توضّح بأن هذا "الريالبوليتيك" قد فرض نفسه في تحديد كما في ترجمة مواقف عديد من الدول الأوروبية مما أدى بالنتيجة إلى وقوفها موقف المتفرج، ثم المتردد، ثم الداعم بحذر لعمليات التغيير السياسي التي جرت. كما أنه كان سبباً رئيسياً في عودة التبني السريع والمتسرّع لبعض الثورات المضادة كانقلاب الجنرال عبد الفتاح السيسي الدموي في مصر سنة 2013 وعمليات "اللواء" خليفة حفتر الليبي المعادي للشرعية والتي من خلالها يحاول، بدعم أوروبي ـ أميركي ـ روسي واضح وفاضح، بالتعاون مع الديكتاتور الجار السيسي، إلى تحقيق مخطط مموليه في الإمارات والسعودية لإجهاض الثورة الليبية او ما بقي منها.
في زمن ليس ببعيد، كتب جان جوريس (1859 ـ 1914)، وهو من أهم منظري اليسار الديمقراطي الفرنسي، والذي يحمل اسمه اليوم أهم مخابر التفكير السياسي التي تهتم بالعلاقات الدولية وتجمع مثقفي اليسار الديمقراطي الفرنسي في جنباتها، كتب جوريس إذا عن ضرورة إعمال مبادئ الديمقراطية في العلاقات بين الدول وعلى أن يكون هذا المبدأ هو المصباح الذي يُضيء مسار العلاقات ويحدد مدى تطورها. كما أن جوريس نفسه، أسهب في كتاباته إلى ضرورة دمقرطة السياسة الخارجية للدولة بعيداً عن الضبابية التنفيذية وأسرار الدولة الأمنية. وذلك يتم من خلال إخضاعها إلى مراقبة السلطة التشريعية كما الرأي العام عبر الصحافة وعبر منظمات المجتمع المدني.
جوريس نفسه، أسهب في كتاباته إلى ضرورة دمقرطة السياسة الخارجية للدولة بعيداً عن الضبابية التنفيذية وأسرار الدولة الأمنية. وذلك يتم من خلال إخضاعها إلى مراقبة السلطة التشريعية كما الرأي العام عبر الصحافة وعبر منظمات المجتمع المدني
فرنسيان إذاً، ينتميان نظرياً إلى تيار اليسار الديمقراطي نفسه، طوّرا تناقضاً فجاً في النظر إلى علاقة القيم الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان بإدارة الدولة لعلاقاتها الخارجية وخصوصاً في مناطق النزاعات وفي بؤر التقلبات السياسية والانقلابات العسكرية التي تكثر في الشرق الأوسط وفي إفريقيا بشمالها وجنوبها، وهي كلها مناطق "نفودٌ" غابر للدولة الفرنسية ما فتئت تسعى، بقصد وبغيره، لإحيائه.
وعلى الرغم من غلبة النظر الواقعية للسياسات الخارجية رسمياً، إلا أنه يُلاحظ ميلٌ كبيرٌ لدى المجتمع المدني المحلي في الدول الغربية إلى إعمال المبادئ والقيم في السياسات الخارجية للدول التي ينتمون إليها. هذا السعي تتم ترجمته بأنشطة محلية أو إقليمية أو دولية، تقوم بها منظمات المجتمع المدني لإحياء مفهوم الدبلوماسية الموازية. وينشط الألمان في هذا الحقل عبر مؤسساتهم المدنية المرتبطة بأحزاب سياسية مالياً، والمستقلة إدارياً وتنفيذياً، وذلك من خلال العديد من شبكات الدبلوماسية البديلة والتي تقوم بدعمها حتى وزارتهم للشؤون الخارجية دون توجيه الحوار أو المشاركة فيه. وتضم هذه الشبكات أفراداً ينشطون في مختلف الحقول الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية في بلدانهم، وجلّهم متفقون على غلبة المبادئ الإنسانية في إدارة العلاقات الدولية رغم طوباوية تحقيق مثل هذا الأمر.
إن الاتحاد الأوروبي الحالي هو نادٍ للديمقراطيات نظرياً ولكنه ليس مؤسسة ديمقراطية بالمعنى الدقيق للعبارة. وكانت بذور تأسيسه عبر المجموعة الأوروبية للفحم والصلب سنة 1951 والتي تعتمد على المصالح الاقتصادية المشتركة
ومن خلال عدة اتفاقيات للتعاون الاقتصادي والثقافي والسياسي بين الاتحاد الأوروبي ودول الجنوب، بدا واضحاً تفضيل الشق الاقتصادي على السياسي في توجيه هذه الاتفاقيات، وابتعد الأوروبيون عن "قيم الاتحاد" ليقتربوا أكثر فأكثر من مصالحهم الاقتصادية. واعتقد جُلّهم بأن دعم الديكتاتوريات في دول الجنوب يمكن أن يساعدهم أكثر في التخفيف من مخاطر الهجرة الحقيقة أو المتخيلة. كما ظنّوا، وما زال أكثرهم يظن، بأن الاستبداد في دول الجنوب قادر على الحد من مخاطر الإرهاب الذي يهدد استقرار مجتمعاتهم. وغاب عنهم، رغم اكتناز أديباتهم السياسية بالأبحاث المساعدة، بأن الدفاع عن حقوق الانسان والحريات ليس أمراً معادياً لتطوير العلاقات الاقتصادية مع دول الجنوب بل على العكس. فاستقرار الدول لا يقوم على القمع، بل يقوم أساساً على دولة القانون وعدالة توزيع الثروات والمشاركة السياسية وحسن إدارة التنوع.
بين الواقعية السياسية في إدارة العلاقات الخارجية والتي مارسها الغرب منذ عقود، إلى فرض احترام حقوق الانسان والحريات كمعايير شرطية في دعم دول الجنوب، والتي يمارسها الغرب بنفاق، يبدو بأن دمقرطة السياسات الخارجية عبر مشاركة فعّالة لممثلي المجتمعات المدنية الغربية هي جزء من الحل الناجح. وستحمل السنوات القليلة القادمة، مع ارتفاع الوعي المجتمعي، والشبابي خصوصاً، بضرورة هذه المشاركة، كثيراً من التغيرات الهيكلية والتي ستساعد على تحقيق التوازن الصحيح بين الواقعية والأخلاق.