الرئيسة \  واحة اللقاء  \  دروس من تدمر

دروس من تدمر

24.05.2015
بيار عقيقي



العربي الجديد
السبت 23-5-2015
أحياناً، يُعتبر وجود بعض المعايير، انطلاقاً من مبدأ "الحريات"، "إهانةٌ" للكرامة البشرية. يُمكن مثلاً تصفّح مواقع الإنترنت، أو كتب يعود بعضها لعقدٍ ونيّف، والنظر للمساحة المخصصة لما فعلته حركة طالبان في أفغانستان، بحقّ تمثالين لبوذا، أو فعله ويفعله تنظيم "داعش" في نينوى العراقية وتدمر والمناطق الأشورية في سورية. تجد الكثير مما يُمكن إدراجه في سياق "الأسف" على تاريخ وماضٍ، على أنه لا يكون بالقدر نفسه حين نتكلّم عن إنسان، يُقتل فقط لوجوده في المكان الخاطئ والزمان الخاطئ. وفي الشرق حالياً، باتت معظم الأماكن والأزمنة خاطئة، وحده الإنسان يدفع ثمنها. الإنسان الذي يغيب عن صفحات المواقع والكتب التي تأبى تخصيص المساحة الكافية له. الحجر مهم. الآثار مهمة، من أجل تأريخ ماضينا والانطلاق منه إلى مستقبل، مفترض أن يكون مغايراً لما سبق، أو تطويراً له. وأهمية الحجر لا تُعادل أهمية البشر إطلاقاً. الخيارات محدودة هذه الأيام: البشر أو الحجر. لكن عالمنا لم يخرج بعد من التقوقع المادي الذي يرفض أي فكرة إنسانية، مهما عظُمت. وفي ذلك عنصرية لم يخترقها العقل بعد.
في تدمر، كما في المناطق الأشورية وسهل نينوى، نسي الجميع، أو تناسوا، أن هناك بشراً ينزح ويموت تحت القصف. الآثار أهمّ بالنسبة إلى الغربيين. هم اعتادوا على رؤية الأمور من منظارهم في الشرق الأوسط: بترول ونفط، والآثار ليست سوى تفصيل يُدرج في إطار سياسي محدد. هكذا يُخصص الإعلام الغربي المساحات لقضية ما، بغية توظيفها في عمل سياسي أو عسكري لاحقاً، وتنتهي القصة.
في تدمر، عَلَت الأصوات المنددة باجتياح "داعش" المدينة. كثر أبدوا تخوّفهم وخشيتهم من مستقبل مدمّر للمدينة، متناسين أن الأهم من تدمر هو الإنسان السوري الذي قُتل وشُرّد في سورية وخارجها. تماماً كما حصل في العراق العام الماضي. بماذا سينفعنا "الثور المجنّح" الذي تمّ تدميره في العراق أمام تهديم كرامة الإنسان في العراق وسورية؟ ما الذي يفيدنا لو ظلّ تمثال "الثور المجنّح" الذي يعود عمره إلى ثلاثة آلاف سنة، متألقاً في الموصل، وجحافل البشر تموت عند أقدامه؟ تبدو الصورة سوريالية، وأقرب إلى وثنية هدّامة، غير أنه واقع نرفض رؤيته.
وبدلاً من التباكي على الآثار، يجدر بنا التساؤل عن "قدرة" التحالف الدولي على وقف زحف "داعش"، فقد مرّ حوالي العام على إعلان الرئيس الأميركي، باراك أوباما، بدء الهجوم على "داعش". نفّذ طيران التحالف الدولي، بقيادة الولايات المتحدة، أكثر من 3000 غارة. من المُفترض أن تؤدي تلك الغارات إلى قلع فكرة "داعش" من أساسها. الأمر الذي لم يحصل، بل بات التنظيم أقوى، وسيطر على حوالي 40% من الأراضي العراقية، وأكثر من 50% من الأراضي السورية. كيف يُمكن لتنظيم يتعرّض لهذه الكثافة من القصف، في مناطق غير جبلية، وينجح في شنّ معارك هجومية، ويُسقط مواقع استراتيجية في غضون أيام، مثل تدمر والرمادي العراقية، فيما نعلم أن بضع غارات لقوات الحلف الأطلسي، على يوغوسلافيا السابقة في العام 1999، كانت كفيلة بإسقاط حكم الرئيس اليوغوسلافي، سلوبودان ميلوسيفيتش؟
لم ينتهِ دور "داعش" بعد، ومخطئ من يعتقد أنه وُجد للانتهاء منه سريعاً. بل أضحى التنظيم أشبه بمستنقع، يجذب كثيرين إلى صراعه، وفق أدبيات دينية وقومية وإنسانية واجتماعية وحتى اقتصادية. لكن "داعش" سيبقى منتصراً، بفعل تركيزنا على أهمية الحجر من دون الاعتناء بالبشر. خصوصاً إذا أدركنا أن الطعام والدواء ينفدان سريعاً في المخازن، أو غير متوفرين لمن يحتاج إليهما، بينما يبقى السلاح متوفراً في كل سانحة. لم ينفع "ثور مجنّح" إنساننا في الشرق، لحظة سقوط الموصل، ولن تنفعنا هياكل زنوبيا في استمرارها على قيد الحياة.