الرئيسة \  واحة اللقاء  \  دخان جنيف الأبيض

دخان جنيف الأبيض

09.11.2019
مرح البقاعي



العرب اللندنية
الخميس 7/11/2019
مستهجناً، هجيناً، ومثيراً للشفقة جاء لقاء رأس النظام السوري، بشار الأسد، مع تلفزيونه المحلي، سواء في توقيته، أو مصطلحاته، أو لتراكم الهواجس والأضداد السياسية لديه وقد حاول معالجتها بالكذب مرة، والالتفاف عليها مرات، وذلك تزامناً مع انطلاق أعمال اللجنة الدستورية/المقصلة، التي ستفصل دماغ الاستبداد المدبِّر عن بدن سوريا المنكوب، وما بموضع شبر منه إلا ضربة أو رمية أو طعنة
أما لجهة التوقيت، فقد اختار الأسد بأن يوجه رسائله المشفّرة حال مغادرة وفده مطار دمشق على متن طائرة خاصة قدمتها موسكو حملت أعضاء لجنة الدستور الخمسين من ثلث النظام في طريقهم إلى مقر الأمم المتحدة بمدينة جنيف للقاء “الطرف الآخر” وهو في هذه الحالة. وبناء على اصطلاحات النظام، وفد المعارضة من أعضاء اللجنة الدستورية الذي لا يريد بشار الأسد أن يسمّيه باسمه رغم أن “هيئة التفاوض لقوى المعارضة والثورة” -التي انبثقت عنها اللجنة الدستوريةـ تتمتّع باعتراف موثّق في أدبيات المحافل الدولية، وكذا وثائق وقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن؛ أشهرت اللجنة الدستورية في 30 أكتوبر للعام 2019 انطلاق العربة الأولى من قاطرة الانتقال السياسي المتكامل الأركان بقرار مجلس الأمن رقم 2254.
أراد الأسد، وبخفّة في التوصيف تشي بحجم الارتباك الذي وقع فريسته، التبرّؤ من العملية الدستورية برمتها؛ فقد تراءت له انتحارا سياسيا على الطريقة التي انتحر بها العديد من المسؤولين النافذين في منظومته الأمنية عندما تحولوا من أدوات له إلى أعباء عليه، وغدوا مجرد “علب سردين” منتهية الصلاحية لا بد من التخلّص منها. أما سيناريو الانتحار فكان دائما متشابها، البطل فيه ينهي حياته بثلاث رصاصات في الرأس! وقد أعرب الأسد عن هواجسه تلك حين قال في لقائه التلفزيوني “ربما تُستخدم اللجنة الدستورية وما سيصدر من نتائج عنها لاحقا كمنصة انطلاق للهجوم وضرب بنية الدولة السورية.. هذا ما يخطط له الغرب منذ سنوات ونحن نعرف هذا الشيء”.
أمّا لجهة المصطلحات، فيبدو أن مجموعة الأسد الاستشارية قد فبركت هذا اللقاء خصيصا لهدف واحد هو مساعدة رئيسها على التنصّل من الحمض النووي للمولود الجديد! وقد جاءت تسميته لفريق الخمسين من حكومته من ثلث اللجنة الدستورية بالوفد “المدعوم من الحكومة” وليس “الممثل للحكومة” أشبه بمحاولات اللحظات الأخيرة قبل الغرق؛ إلا أن المحاولة بدت مرتبكة، ساذجة، بل مثيرة للسخرية لجهة استخفافه بالعقل السوري، وبالقرار الأممي الرسمي، حيث ورد في وثيقة تشكيل اللجنة الدستورية التي أودعت وثائق مجلس الأمن أن تشكيل اللجنة جاء نتيجة “اتفاق بين حكومة الجمهورية العربية السورية من جهة وبين هيئة التفاوض لقوى الثورة والمعارضة من جهة ثانية”.
تأتي محاولة التهرب من الاستحقاق الذي زفّ أوانه متأخرة جدا. فوفد النظام السوري حطّ في أرض مطار جنيف ولم تعد لتسعف الأسد التسميات.. فالعربة ارتفعت على السكّة، والدخان الأبيض انطلق من مبنى الأمم المتحدة بحضور وفديّ المعارضة والنظام، وبافتتاح رسمي للجلسة من طرف المبعوث الأممي غير بيدرسن، ونائبته، خولة مطر، وفريقه المساعد. فأعفنا من مصطلحاتك هذه المرة، لقد سبق السيف العذل، واستدارت موسكو بحركة ذكية فيها الكثير من براعة استدارات راقصي البولتشوي الخاطفة، واضعة الحصان الدستوري أمام عربة الانتقال السياسي المستحَقّ.
فلماذا تريد موسكو أن تنجح أعمال اللجنة الدستورية بغطائها الأممي وليس غطاء أستانة أو سوتشي اللذين رعتهما؟ ولماذا أرسلت طائرتين خاصتين لنقل الوفود من دمشق إلى جنيف متكبّدة هذا العبء المالي الإضافي وهي التي ما انفكّت تتذمّر من التكلفة العالية للحرب السورية على خزينتها؟ وماذا وراء تصريح أعضاء من حكومتها ضمن وفدها الرسمي الذي التقى المعارضة قبيل افتتاح الجلسة الأولى قائلا “موسكو لن تسمح بفشل اللجنة الدستورية”؟!
يشي الضغط الروسي المتواصل بهدف إطلاق أعمال اللجنة الدستورية بأمرين: الأول أن روسيا على توافق تام مع واشنطن بعد أن فرغت كل من الدولتين العظمتين من رسم خطوط نفوذهما في سوريا وتعزيز استقرار وموارد المناطق الواقعة في دائرة ذاك النفوذ والتي هي النفط والمربع الجغرافي المجاور للعراق بالنسبة لواشنطن من جهة، والمياه الدافئة على الساحل السوري وعودة الحرارة السياسية للكرملين ما بعد زمن الحرب الباردة من جهة أخرى.
أما الدول الإقليمية الفاعلة على الأرض السورية فقد جمعت حصادها هي الأخرى؛ فتركيا عدّلت كفة الميزان السياسي المحلي الذي كان قد رجح لطرف معارضي أردوغان إثر الانتخابات الأخيرة والخسائر التي مني بها حزبه في مدن أساس مثل اسطنبول وأنقرة وأزمير، وذلك بتنفيذ أنقرة لمشروع المنطقة الآمنة، ولو جاء متواضعا ومشوبا بكثير من الشروط والمعوقات.
أما إسرائيل، فقبلت “بتواضع” هدية الرئيس الأميركي وقصّت الشريط الذهبي الذي غلّف به الجولان وقدّمه على طبق من فضة لتل أبيب مبررا قراره بقوله “إن هذه الأرض لم يدافع عنها أصحابها وبالتالي هي ستبقى لمن حصل عليها بالحرب”؛ ولا يبتعد كلام ترامب كثيراً عن الحقيقة في أن جبهة الجولان كانت ولم تزل الأهدأ بين خطوط المواجهة في العالم، حيث لم يطلق حافظ الأب ولا بشار الابن طلقة واحدة فيها نحو المحتل الإسرائيلي خلال ما يقارب الخمسة عقود من حكم عائلتهما!
أما طهران المشغولة بإحصاء خساراتها في لبنان والعراق إثر الثورات الشعبية التي يتقدّمها الشيعة العرب قبل السنة ضد نفوذ ميليشياتها الطائفية العابرة للحدود وقد ضاقت بها الشعوب كما ضاقت بطغيانها البلاد، فستكون دمشق آخر مقابر مشروعها المذهبي التطهيري، يوم لن ينفعها توأمها في الطائفية هناك بأجهزة أمنه وجيشه ومخابراته كافّة.
وفي الوقت الذي يقبع بشار الأسد في قصره يخترع المصطلحات، ويوجّه اتهامات الإرهاب “رشا ودراكا” إلى المعارضة، ويمعن غوصا في الإنكار ورفض ما غدا أمرا واقعا في جنيف؛ نجد وفد اللجنة الدستورية من طرف المعارضة يتابع مهماته بحس وطني عال ومعايير مهنية دولية من أجل إنجاز مهمة صياغة دستور جديد لسوريا جديدة سيشكل القاعدة القانونية للانتقال السياسي الكامل ضمن مظلة قرارات الأمم المتحدة التي يعمل الوفد تحت قبتها وبدعمها وتيسير منها للعملية الدستورية.
إثر إعلان حافظ الأسد لبيانه 66 الشهير عن سقوط القنيطرة في حرب يونيو العام 1967، مستبقا دخول جندي إسرائيلي واحد على الأقل إليها، كتب موشيه دايان وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك قائلا “إسرائيل لا تخاف من العرب في المستقبل إلا إذا استطاعوا أن يلتزموا بالصعود إلى الباص من الباب الخلفي ومغادرته من الباب الأمامي”.
والمقصود بهذه المقاربة هو قدرة العرب على تنظيم أنفسهم واتباع القواعد والمعايير العامة المتعارف عليها في العالم. اليوم، وقياسا على ما شهدت من أداء وفد الخمسين من المعارضة في بواكير جولات جنيف الدستورية، أستطيع أن أقول أن على النظام السوري، ورأسه، أن يحسب للمعارضة ألف حساب، فهي اليوم تستقل الباص صعوداً من الخلف وتغادره من بابه الأمامي!