الرئيسة \  واحة اللقاء  \  "داعش".. والاستبداد الرباعي!

"داعش".. والاستبداد الرباعي!

02.05.2017
د. طيب تيزيني


الاتحاد
الاثنين 1/5/2017
تتعاظم الكتابات حول الإسلام كماً ونوعاً منذ ظهور جماعة «داعش»، وقد أثارت هذه الأخيرة جدلاً واسعاً في أوساط الكتّاب ومراكز البحوث بقدر اتسع عمقاً وسطحاً، كما تعاظم القلق مع اتضاح الممارسة «الداعشية» الوحشية، التي تجلّت بصيغ غير مسبوقة من القتل والتعذيب وإثارة الرعب، مع تعميمه في أوساط المسلمين وغيرهم في الشرق، كما في الغرب والشمال والجنوب من المعمورة. وكان ذلك بمثابة فتح باب جهنم على الجميع، بحيث راحوا يقلبون في استراتيجياتهم وأفكارهم، كما يبحثون في خطط دولهم عما قد يكون رداً على البلاء العالمي الجديد. بل رحنا نتبين في أوساط بعض الدول الإسلامية والمسيحية وغيرها اشتعال حروب لم تخمد حتى الآن. وطبعاً، ظل التأكيد «الداعشي» على أصله، الذي يتمثل بتنظيم «القاعدة» الذي سبقه في النشأة والانتشار مع بن لادن. وربما كان أهم من أسس له أبومصعب الزرقاوي، الذي كان يرى في المذهبية الطائفية نقطة الانطلاق، ما جعل دعوته تتفاقم بسرعة وتبقى أطول، خصوصاً في سياق الحروب التي قامت في مناطق متعددة من العالم العربي- الإسلامي.
وضمن ذلك السياق اتضحت مفردات «الداعشية»، وخصوصاً منها إشكالات وتصنيفات الشر بإطلاق والخير بإطلاق، وكذلك خصوصاً توزيع أوصاف الكفر والإيمان، هذا طبعاً مع أبشع وسائل القتل والإبادة.
وإذا كنا قد أتينا على البنية الأولية لـ«الداعشية»، فإن ما ينبغي إضافته بالخطورة نفسها يتمثل في حدثين كبيرين متحدرين من عالمين اثنين، ويتجلى أولهما في الاضطراب الهائل وشبه المستديم لواقع الحال في العالم العربي- الإسلامي. وهو يتجلى في الظلم والاستبداد والإفقار المفتوح في هذا العالم. فعلى مدى سنين طويلة سيطر فيه ما نلخصه بـ«قانون الاستبداد الرباعي» بصيغ متعاظمة من الظلم والاستفراد وابتلاع المجتمعات القائمة اقتصاداً وسياسة وثروة وقراراً وغيره. أما في العالم الثاني، ونعني به «العالم الأوروبي» عموماً، فقد حقق تحولات عظمى، وذلك في سياق النظم الرأسمالية الكلاسيكية (حتى القرن الحادي والعشرين) أولاً، وفي مواجهة النظام العالمي العولمي، المستمر والمتلاحق حتى مرحلتنا المعيشة.
كان التحول الأوروبي باتجاه النظام العولمي نقطة تحول قصوى باتجاه «تشييء العالم» بعجره وبجبره من قلب هذا النظام نفسه وُلدت نقائضه التاريخية، وإن كانت المقدمات الإرهاصية الأولى لها سبقت النظام المذكور، بحيث ظهرت معالم تشير إلى «القادم». لقد حلّ هذا القادم في الدار الجديدة، دار النظام العولمي، الذي راح يسير وفق آلياته القانونية، التي تهمنا منها واحدة عامة شاملة وحاسمة، في تحديد مصائر العالم ليس الأوروبي فحسب، وإنما كذلك الآخر المتبقي. لقد جاء أحد رواد العالم في القرن التاسع عشر، ليبلّغ خطابه لكل الأمم، بكثير من الوهج والتحذير الملفع بالتأنيب لمن لا يأخذ ذلك بعين الاعتبار منذ حينه وحتى مرحلتنا الراهنة. ذلك كان المفكر الألماني كارل ماركس. فقد التقط هذا المفكر أخطر ما يمكن تحديده بالنسبة لـ«العولمة» وذلك حين عرف النظام الجديد إياه بلغة تزدحم فيها الدلالات التي ينطوي عليها هذا الأخير. لقد قال: «كلما ارتفعت قيمة الأشياء، هبطت قيمة الإنسان!».
وسوف يكتشف مفكرون قادمون بعد ماركس «سر» ذلك العالم، ليضعوه في اسمه الحقيقي المناسب. وقد كان أحد ذلك العلماء قد أوضح وأفصح، حين سمي ذلك العالم بسمة تكلله أفقاً وسطحاً، حين أعلن أن العولمة هي «السوق المطلقة». وكان الأمر على هذا النحو قد أعلن في وضح النهار: إنه الظلم والاضطهاد والتهجير والتدمير والبحث عن بدائل «من طراز جديد»، وإنهاء الكرامة الإنسانية والهويات الثقافية والسياسية.. إلخ، وهذا كله إن هو إلا أشياء، يُشتغل بها في السوق الجديدة «العولمية». وهذا ما سمح بإنتاج النتيجة القصوى، التي لم تكن وراء داعش فحسب، بل كذلك في صميم الحروب الظالمة الإجرامية، وخصوصاً منها ما يفصح عن نفسه عربياً أو إسلامياً أو مسيحياً وغيره.
إن العمل باتجاه تفكيك «داعش» يتطلب تفكيكاً للمنظومات الكامنة الآن وراء وأمام نُظم «بلطجية»، تحول الأكوان إلى أشياء يتم بيعها وشراؤها والتغطية عليها وفتح أبواب فعلها، سواء في العالم العربي والعوالم الأخرى، التي تحتكم للسوق أصلاً وفرعاً ومصائر، لا يعرفها إلا من يملك المنظمات الإرهابية ومرجعيات السوق والحروب. هذا هو الموقف. فماذا بعد؟
------------------
* أستاذ الفلسفة بجامعة دمشق