الرئيسة \  واحة اللقاء  \  خطة موسكو العسكريّة للتفاوض

خطة موسكو العسكريّة للتفاوض

06.02.2016
عبدالناصر العايد



الحياة
الخميس 4-2-2016
تنطلق خطة روسيا في عملية التفاوض السورية الجارية في جنيف الآن من بديهيتين: الأولى، عدم قدرتها على حسم الصراع عسكرياً لمصلحة نظام الأسد، وجلّ ما تطمح إليه هو تحسين وضع قواته وليس تحطيم الثورة، وتحتاج لإنجاز ذلك إلى عمل مختلط عسكري وسياسي واستخباراتي، وهذا يقتضي بعض الوقت. والثانية، أن المفاوض الذي لا يقف خلفه مقاتل مفاوض ضعيف، لذلك تركز جهودها على جبهات الصراع لتحييد قوى المعارضة المقاتلة، باستخدام القوة الجوية الروسية المتفوقة، التي تقوم بعملها في منتهى الشراسة، مستفيدة من ضباب العملية التفاوضية وتحت غطاء مهلتها الزمنية، لانتزاع أنياب المعارضة السياسية ومخالبها بالتدريج، وإضعافها وترويضها تمهيداً لاستسلامها، الذي قد يأتي بصيغة نصف انتصار على مائدة التفاوض، على أن يكمل النظام عملية الإجهاز على الحالة الثورية شيئاً فشيئاً، بأساليبه وأدواته الخاصة.
وقد بدأت تتّضح في الأيام الأخيرة ملامح الخطة العسكرية الروسية في سورية، التي تركز على فصائل الثوار والقوى الإسلامية، وتستهدف قياداتها ومفاصل قوتها ومواقعها الأكثر استراتيجية. فالتوسع جارٍ لقضم مواقع الجيش الحر في الجبهة الجنوبية، وهي أقوى حصون ما يوصف بالمعارضة المعتدلة، وتحرك القوات الروسية على جبهة الساحل لتخفيف الضغط على النظام في هذه المنطقة الحساسة، كما تقوم بزج مزيد من الميليشيات حول حلب شمالاً لقطع خطوط الإمداد قرب الحدود التركية، التي تشكل المتنفس الوحيد للثوار، وأخيراً تستخدام أسلحة التدمير الفائقة ضد تجمعات المدنيين المؤيدين للثورة، وترتكب في حقهم المجازر الجماعية، لخفض المناعة الذاتية للمجتمع السوري، والحد من دعمه الثوار، بإشاعة حالة من الرعب واليأس بين صفوفه.
يجري ذلك كله بالتزامن مع عملية إعادة هيكلة لقيادات جيش النظام، وتنظيم صفوفه وأولوياته العسكرية مجدداً، من دون المغامرة بنشر قوات على مساحات شاسعة قد تجعلها عرضة لحرب العصابات مجدداً، تلك الحرب التي ابتلعت عشرات الآلاف من مقاتلي النظام من دون جدوى. وبطبيعة الحال، مع استثناء "داعش" من أي مجهود جدي، فهو الفزاعة التي يجب الحفاظ عليها لإرهاب المجتمع الدولي، وتفادياً لجر روسيا إلى حرب أيديولوجية تغيّر مسار الخطة كلياً.
ويتوقع الروس أنهم قادرون في المدى الزمني المقرر للمفاوضات، وهو ستة أشهر، على إنهاء معظم جيوب المقاومة في الجنوب والساحل، وتشتيت فصائل الشمال أو دفعها شرقاً نحو "داعش"، فيما تغلق الفصائل الكردية المتحالفة معها الحدود التركية، وفي ظلّ هذا الوضع سيطرح على ممثلي الثورة العرض الأخير الذي سيكون في مثابة أمر واقع لا بديل عنه، وهو في أفضل الأحوال منح بعض الحقائب الوزارية غير السيادية للمعارضة، مقابل انخراطها في محاربة "داعش" و "جبهة النصرة" تحت إمرة النظام، الذي سيصفي مع مرور الوقت، ومع بقاء السلاح في يده فقط، مخرجات التفاوض الهزيلة، ويستعيد وضعية السيطرة على السوريين مجدداً، بعد كسر إرادتهم.
إزاء هذه الاحتمالات السلبية العالية الإمكانية، ليس أمام المعارضة السورية سوى التمسك بالثوار المقاتلين، ليس بإبقائهم في وفد التفاوض فحسب، بل بتقويتهم من النواحي كافة، والعمل على جمعهم وتوحيدهم في جبهة واحدة، واستجلاب كل دعم ممكن لهم، سواء بالطرق الذاتية أو من معسكر أصدقاء الثورة المتضررين من التدخل الروسي، الذين يجب إقناعهم بأن المفاوضات في الواقع تسير على سكتين متوازيتين، بل إن الخط الديبلوماسي لا معنى له في حال سمح بالقضاء على المكون العسكري للثورة.
ويأتي في الدرجة الثانية من حيث الأهمية، عدم السماح لروسيا باتخاذ التفاوض غطاء لعملها الدموي في سورية، والانسحاب احتجاجاً على هذه النقطة بالذات. فلا يمكن موسكو أن تكون خصماً وحكماً في آن واحد، ونقض العملية الحالية برمتها من خلال المطالبة باستبدال دي ميستورا، الذي اتضح في شكل سافر أنه منحاز الى نظام الأسد وحلفائه.
ويأتي في الدرجة الثالثة من حيث الأهمية، تكوين قيادة سياسية وعسكرية للثورة، على خلفية الرصيد الشعبي والسياسي الثمين الذي أحرزته الهيئة العليا للمفاوضات، واتساع المشاركة فيها الذي شمل قوى سياسية وعسكرية للمرة الأولى، ما يمكنها من المناورة استراتيجياً في المضمارين العسكري والسياسي، عبر إطلاق حرب تحرير شعبية، تخوضها المعارضة السياسية جنباً إلى جنب مع القوى العسكرية الموحدة، وانتظار تغير الرياح المحلية والإقليمية والدولية. فالحقيقة الساطعة اليوم، أن مصير الفصائل المسلّحة هو الإبادة بالتقسيط إذا ما بقيت على تشتّتها، فيما ينتظر قوى المعارضة السياسية صك الخنوع على طاولة جنيف إذا ما بقيت على ما هي عليه من قصر نظر، وتنافس مدمر على سلطة قد لا يحصل عليها أي من تلك القوى إطلاقاً.