الرئيسة \  واحة اللقاء  \  حين يُطلق المعارض السوري الرصاص على نفسه

حين يُطلق المعارض السوري الرصاص على نفسه

05.01.2019
شعبان عبود


العربي الجديد
الخميس 3/1/2018
تتحمّل المعارضة السورية، بمؤسساتها السياسية وبنخبها ومثقفيها، جزءاً كبيراً مما آلت إليه الأمور على الصعيدين، الميداني والسياسي، السوريين. لا تتحمل مسؤولية كاملة، لأن ما حصل منذ العام 2011 أكبر من أن يتحمّل مسؤوليته طرفٌ وحيد، ولأن القضية السورية تصبح أكثر تعقيدا، حين البحث في أسباب ما آلت وانتهت إليه الثورة السورية. أيضا لا بد من التنويه إلى أن المسألة تتعدّى تحميل طرفٍ دون غيره المسؤولية. وليست هي عملية جلدٍ للذات، بقدر أن ما حصل يستدعي من كل الأطراف السورية المنخرطة في الصراع إجراء عملية مراجعةٍ وقراءةٍ ضروريةٍ، وبأساليب علميةٍ رصينة، حتى تتم الاستفادة، وأخذ العبر، وحتى لا تتكرّر المآسي والويلات، وتذهب التضحيات سدىً، وتصير نسياً منسيا. يبدو النظام السوري أنه انتصر على خصومه، وينتصر ميدانيا وسياسيا اليوم. هذا صحيح، لكن يجب أن نتذكّر أنه ليس انتصارا نهائيا، وهو انتصار ما كان ليتم إلا بعد تدمير البلاد، ومقتل مئات من الآلاف من السوريين، وما كان ليتم لولا تدخل قوى خارجية. وكان ثمن هذا الانتصار شبه الناقص والمشكوك فيه مكلفا على النظام ومؤيديه، إلى درجة أنه كاد أن يتهاوى في أواخر العام 2015، لولا التدخل العسكري الروسي. هذا يعني أن النظام مطالبٌ أيضا بإجراء مراجعة ضرورية، والتعلم مما حصل، فيما لو أراد عدم تكرار انتفاضة شعبية ثانية، تهدد وجوده، لكن ثمّة شكوكاً في أن يقوم أو يستطيع القيام بذلك، وهو المنتشي اليوم بلذّة الانتصار.
"انتصار النظام ليس نهائياً، وما كان ليتم إلا بعد تدمير البلاد، ومقتل مئات من الآلاف من السوريين"
ما يهم هنا هو المعارضة السورية، والظواهر السلبية التي رافقت أداءها ووسمته على مدار الأعوام المنصرمة من عمر الثورة، والأخطاء القاتلة التي وقعت فيها.
يحتاج البحث في ذلك استفاضة وزمنا، ويحتاج جهودا كبيرة من النخب السورية المعنية بما حصل. وليست وظيفة هذه المقالة التصدي لمسيرة المعارضة وأدائها، ورصد كل الأخطاء التي وقعت فيها وأسباب ذلك. نحن هنا نبحث في ظاهرةٍ لافتةٍ مستمرة، وما زالت تطبع آليات عمل (وتفكير) كثيرين محسوبين على المعارضة. نظرة سريعة اليوم على وسائل التواصل الاجتماعي تُظهر لنا حدة الاستقطاب والتشرذم والشللية بين مكونات المعارضة السورية وأجسامها. وقبل ذلك كله، تُظهر حجم مناخات التطرّف والطفولية والانتهازية في خطاب معارضين وناشطين كثيرين، وأدائهم وسلوكهم، على منصات "السوشيال ميديا".
للخروج من إطار العموميات، تُستعاد هنا بعض الأمثلة لما شهدته هذه المنصّات من صراعاتٍ وخلافاتٍ وحملات تخوينٍ بالأسماء الصريحة ضد أشخاصٍ هم معارضون آخرون. بمعنى أن معارضين سوريين، ولأسبابٍ ما، قرّروا أن يهاجموا شخصا معارضا آخر محسوبا على المعارضة، لمجرّد أنه كان موظفا في الحكومة السورية أو عسكريا في الجيش السوري أو صحافيا في وسائل الإعلام الحكومية. وكلنا يعرف أمثلةً عديدة عن حملاتٍ استهدفت وزيراً سابقاً أو إعلامياً ما، وأفرزت هذه الحملات حالة من الاستقطاب بين جمهور المعارضة، وصل إلى درجة تناول الحياة الشخصية والقدح والذم والتخوين والتهديد بالقتل.
لقد استوقف هذا المناخ كثيرين منا، وربما شعر آخرون بحزنٍ لما آلت إليه أحوال المعارضة. لا أعرف لماذا كنت، ومنذ البداية، أشعر بالقلق إزاء ما يحصل، وأتحسّس مخاطره العميقة على الجميع، وخصوصا على العمل المعارض والمنخرطين فيه. كنت ولا أزال على ثقةٍ بأن النظام السوري ينظر الى كل معارضيه، وبكل أطيافهم نظرة واحدة. وأدرك في أعماقي أن الجميع مطلوبون ليكونوا تحت سكينه، وما هم إلا "خونة" و"عملاء" بنظره، فلماذا كل هذا التشرذم، وما هي ضرورات هذا الاقتتال والشخصنة ودوافعهما، وما جدوى افتعال هذه المعارك، حيث الجميع فيها خاسرون؟
كان لافتا أنه، على سبيل المثال، وبدلا من أن يتم تشجيع وحماية واحتضان من كانوا يعملون في مؤسسات حكومية، أو يشغلون مواقع في النظام، قبل أن يقرّروا الابتعاد عنه، والانتماء للثورة السورية. كان لافتا حجم التشكيك بهم وبخياراتهم الأخلاقية والسياسية الجديدة، ليس التشكيك فحسب، بل نظرة من هم محسوبون على المعارضة اليسارية التقليدية (وغيرها) بفوقية إليهم.
مفهوم ومقدّر أن يقف يساري وسجين سابقا مع الثورة السورية، فهذا هو الخيار المتوقع والمرتقب منه، ولن يكون جديدا أو مفاجئا. ولكن ما كان مهما أكثر، وما هو موضع تقدير وفرح أكثر هو الموقف الذي يتخذه مثلا زميل صحافي يعمل في مؤسسة إعلامية حكومية، حين يقرر حسم خياراته، ويقرر الوقوف مع الثورة، ومع شعبه الذي كان يتظاهر ويهتف للحرية والشوارع ويُقتل فيها ثمناً لذلك. هذا ما هو مفرح، وما كان منتظرا، وهذا ما كانت الثورة والمعارضة بحاجته. فمع هذا الخيار، المُكلف جدا لصاحبه على المستويين، الشخصي والعائلي، تكسب المعارضة خبرة وموقعا وإضافة، ويخسر النظام أكثر وأكثر.
للأسف، ما حصل، وما صار ملحوظا من حملات تشويه وتشكيك ضد هؤلاء كان مخزيا. حملات لا مبرّر لها أبدا، ولا تفسير إلا قِصر النظر، وانعدام الخبرة لدى المعارضة السورية ورموزها التقليديين، إضافة إلى أسباب ربما سيكولوجية، تتعلق بتشوّهاتٍ نفسيةٍ أصابت معارضين كثيرين ممن قضوا سنواتٍ طويلةٍ في السجون، وحين خرجوا باتوا يحقدون على كل من لم يدفع الثمن الذي ذاقوه. وحين قامت الثورة اعتقدوا أنها ثورتهم، وهم من صنعوها، ووحدهم من كانوا يعارض هذا النظام. ولذلك وحدهم، حسب تفسيرهم، من لديه حقوق ملكيتها الحصرية، بحيث يقرّرون من ينضم إليها!
كلنا سمع بالأقاويل عن ذلك الوزير وانتهازيته، لأنه "استفاد من النظام، ويريد اليوم أن يجني من الثورة"، وعن الضابط الذي كان "أداةً يبطش بها النظام طول عمره، وجاء ليقود العمل العسكري، ويصبح قائدا عسكريا في المعارضة". وكذلك سمعنا بالصحافي الذي "كان مغمورا طول عمره في تلك الصحيفة، ويريد أن يبقى في الواجهة مع المعارضة"..
"قدّمت المعارضة غير الناضجة أثناء ربيع دمشق المبرّرات للنظام لخنق التجربة ووأدها في مهدها"
لم يتوفر لدى المعارضة السورية، مع الأسف، ذلك الحسّ البراغماتي، والنظرة الاستشرافية المستقبلية، في التعامل مع الخصوم التي علّمنا إياها التاريخ من درس فتح الرسول محمد الباب واسعا لأبي سفيان للدخول في الإسلام، بقوله "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن". ومعلومٌ ماذا قدمت هذه الإضافة للإسلام - الدولة على يد معاوية بن أبي سفيان. كان الرسول، بحسّه الاستراتيجي، وكونه صاحب قضية، "سياسيا"، يعرف أهمية الإضافة الذي سيحدثها أبو سفيان لصالح الإسلام، ويدرك حجم الخسارة الكبيرة لدى معسكر الخصوم.
بين عامي 2000 و2001، خلال تغطيتي الصحافية فترة ربيع دمشق ومنتديات الحوار الوطني، لفتت نظري كثيرا حدّة الخطاب المعارض وتطرّفه، ومستوى السقف الذي رفعه في وجه نظام قويٍّ ومستبدٍّ ومتجذر. وقتها كان النظام، عبر عناصره الأمنية، يراقب ما يجري، وينتظر الفرصة السانحة للانقضاض على التجربة وإجهاضها. ولقد قدّمت له المعارضة غير الناضجة، عبر خطابها المتطرّف، ومطالبها غير الواقعية، وانتقاداتها اللاذعة كل المبرّرات لخنق التجربة ووأدها، وهي في مهدها.
واليوم، يبدو أن معارضتنا، أو معارضاتنا الكثيرة، لم تتعلم أي شيء، ولا تريد أن تتعلم من شيء، حتى لو كان الثمن دمار وطن، وضحايا بمئات الآلاف. ما زالت المعارضة لا تنتج إلا خطابا إقصائيا ضد الجميع، متجاهلة حجمها وموقعها وإمكاناتها، باحثة عن كل ما يفرّق بينها، وليس ما يجمعها مع بعضها بعضا.