الرئيسة \  واحة اللقاء  \  حلب مدينة جائعة ومستنزفة وقتل أبنائها لا يحرك الضمير العالمي

حلب مدينة جائعة ومستنزفة وقتل أبنائها لا يحرك الضمير العالمي

24.11.2013
فرانشيسكا بوري


يديعوت 22/11/2013
صحف عبرية
القدس العربي
السبت 23-11-2013
”إهدئي’، طلب علاء حينما مررنا على حاجز التفتيش الاخير واتجهنا الى المدينة، أُطلقت قذيفة راجمة فجأة وشقت الهواء. ‘الآن، وأنتِ في حلب، أنت آمنة’، قال وطأطأ رأسه محاولا التهرب من القناص.
‘في زيارتي الاولى هنا قبل أكثر من سنة بقليل، لم أُجهد نفسي حتى في أن ألبس برقعا تحت خوذتي. وبعد ذلك، بعد البرقع طلبوا إلي أن ألبس قميصا من الصوف. وبعد قميص الصوف جاء دور سراويل حتى العقبين. وأنا الآن أحتاج الى خاتم زواج ايضا ‘لأنه يجب أن تسيري الى جانب رجل، الرجل الذي تُنسبين إليه’. ‘ولما كان الاسلاميون الآن مسيطرين والقوانين التي يقبلها كثيرون هي أحكام الشريعة لا قوانين الرئيس بشار الاسد، وتختلط جرائم الادارة بجرائم المتمردين، فانه لا يجوز الدخول للصحفيين. ما يزال 18 منا مفقودين، بحيث إن خوذتي هي اليوم برقع ودرعي الواقية هي الحجاب. لأن الطريقة الوحيدة للتسلل الى داخل حلب أن أظهر بمظهر امرأة سورية سرا دون أن اسأل اسئلة في الشارع ودون أن أُمسك بدفتر وقلم. ‘لكن الامر ليس أمر البرقع فقط’، تُحذرني امرأة عرفت فورا أنني اجنبية بسبب لون أصابعي المكشوفة. ‘كي تبدي سورية في هذه الايام يجب أن تكوني قذرة ونحيلة وكئيبة ويائسة’.
‘إن حلب مدينة اسلامية في هذه الايام، وجائعة. فالناس في الشوارع يبيعون كل ما تناله أيديهم. ويبدو أن كل ما نجحوا في جمعه مدة حياتهم قد وجد نفسه على الرصيف، فثم أباريق الشاي، واجهزة التلفاز، والهواتف وشراشف الطاولات وكل شيء. واذا أردنا الدقة في الحقيقة فالحديث عن حطام كل شيء لأن حلب كلها أنقاض فتجد انسانا يبيعك عربة طفل صغير وآخر يبيعك عجلاتها.
ويمكن أن ترى في الأزقة الضيقة اولادا يلعبون. فالبنون على الرصيف الأيمن مع بنادق ألعاب كلاشينكوف، والبنات على الرصيف الأيسر وقد وضعن النُقب في أعمارهن الصغيرة. ويراقب من الطرف والدان يداعبان لحيتيهما الطويلتين ويراقبان البنات بمؤخر عينيهما وعلى جسميهما جلبابان وحزامان ناسفان.

يحاولون الامساك بنمر

ما زال نحو من مليون سوري يعيشون في مناطق المدينة التي يسيطر عليها جيش التحرير أعني اولئك الذين لا يستطيعون أن يسمحوا لأنفسهم بدفع 150 دولارا يأخذهم في سيارة الى الحدود مع تركيا. ويخطو عشرات الاولاد الحُفاة في أسمال، أجسامهم مشوهة وفيها ندوب بسبب علاج عنيف، على آثار أمهاتهم الحافيات هن ايضا والضاويات والسود من أخامص أقدامهن حتى رؤوسهن، فهن مغطيات تماما. وكلهن تحمل طبقا عميقا آملات أن يجدن رغيف خبز في المسجد. فالحال كالحال في الصومال أو في اثيوبيا: فالاولاد ذوو جلود صفراء من حمى التيفوس، ونظرات عميقة تنغرس فيك حينما تحاول المرور بهم. فهم يبدون مثل اولاد حرب حقيقيين ممن لا يظهرون أبدا في الصحف أو في التلفاز. وهم لا يبتسمون شُكرا حينما يُعطون كعكة. فهم مرهقون لا كلمات عندهم، وعيونهم في دهشة للمشاهد الفظيعة. هؤلاء هم الاولاد الحقيقون. هم والاولاد الذين حصدتهم صواريخ الاسد ممن بُعثرت أجزاء أجسامهم في المستشفيات. ويأتي الضحايا هنا دائما في أزواج لأنه يوجد بالقرب من كل قتيل جثة اخرى لمن حاول أن يُخلصه وأطلق قناص النار عليه.
ولا يختلف مصير الاطباء عن مصير الاولاد، ‘لأن الجميع أُسلِموا هنا للموت، وفي حين يفكر العالم في سلاح كيميائي وغاز، نُقتل نحن بجميع أنواع الاسلحة الاخرى’، يُبين أبو يزد (25 سنة)، وهو طالب طب أصبح الطبيب الرئيس في المستشفى. والآن وفوق أنه لا يملك في الحاصل سوى ضمادات، فانه لا يعلم كيف يعالج أكثر الجرحى. ‘إن قطع الرجل أمر يختلف تماما عن علاج أمراض الأوعية الدموية’، يقول.
عند مدخل المستشفى توجد خيمة وفيها فرشاة ودلو: هذا هو الدواء الوحيد المضاد لهجوم كيميائي. وتوجد في الخارج ايضا الجثث التي لم تُعرف، ويمر الناس بالقرب منها فيرفعون طرف الغطاء الابيض للتحقق من أنها ليست لأخ أو لابن عم لهم.
إن المناطق التي يسيطر عليها المتمردون تحكمها ادارة مدنية نظريا هي مجلس الثورة. بيد أن تعيين اعضائه يتم من خارج حدود سوريا من قبل الائتلاف الوطني المعارض للاسد الذي انشأه المجتمع الدولي. وهنا فضلا عن أن لا أحد يعترف بسلطتهم، يتهمونهم ايضا بأنهم يحكمون مصير سوريا في ترف فنادق خمسة نجوم في تركيا. وعلى كل حال حصلت البلدية الجديدة في الحاصل على 400 ألف دولار من متبرعين لاعادة بناء نظام الكهرباء ولتطهير الشوارع ولفتح المدارس من جديد. ونقول للمقارنة فقط إن الاخضر الابراهيمي مبعوث الامم المتحدة الخاص الى سوريا يحصل على أجرة 189 ألف دولار كل سنة.
والمال ينفد سريعا. فحينما لا تكون الميزانية كافية حتى لدفع أجرة 25 دولارا الى موظفي البلدية، فما العجب من أنني حينما أطلب لقاء رؤساء ادارة حلب، أجد نفسي في محكمة اسلامية. أو أجد نفسي لأنني متخفية في بيت لؤي، ممثل القاعدة في المدينة، ويقرع الظل القاتم لزوجته الباب المغلق ويترك وراءه صينية مع القهوة.
‘لكل مجموعة متمردين ممثل لها في المحكمة. واسأل ما هي القوانين التي يحكمون بها. والجواب: أحكام الشريعة. أي أنه يوجد تجاهل مطلق للقوانين المكتوبة واهتمام بارادة القضاة فقط. ‘على حسب تراثنا فان قضاتنا خبراء بنظرية القانون. وهم ناس حكماء أعيان حظوا بثقة الجماعة’، يُبينون لي.
‘بيد أن كل القضاة في حلب فروا ناجين بحياتهم أو قُتلوا، والقضاة اليوم ايضا أولاد. فلؤي في الثانية والثلاثين من عمره. كان قبل الحرب متدربا أنهى دراسة الحقوق قريبا. ويعترف قائلا: ‘ليس الامر سهلا في الحقيقة. أولا لأن كل واحد هنا يحمل سلاحا ولا يحتاج الى المحكمة لاقرار العدل. لكنه غير سهل في الأساس لأنه ليس من السهل البحث في جرائم نفذها مقاتلون مثل النهب والابتزاز. فحينما حاولنا الادعاء على نمر، وهو زعيم واحدة من أشد العصابات المسلحة قسوة، أحدق رجاله بأعضاء المحكمة ولم ينصرفوا حتى ألغينا الدعوى’.

أشباح في قلب المدينة

لتحسين صورة المحكمة من جديد أعلنوا هناك حظر نقل الطعام في ‘زقاق القناصة’، وهو نقطة الانتقال بين جزئي حلب. إن كل محاولة لقطع الزقاق هي رهان كالقاء مكعبات النرد تماما، بيد أنك تراهن على حياتك هنا.
في الماضي فرضت الادارة حصارا وجوعت نصف المدينة الثاني الذي كان يخضع للمتمردين. وأصبح المتمردون أنفسهم الآن هم الذين احتلوا كل الطرق المؤدية الى حلب، وهم يحاصرون نصف المدينة الذي يسيطر عليه رجال الاسد ويُجوعونه. وفي هذا الزقاق يمر أناس يُلصقون بأجسامهم شرائح لحم، ويُدخلون بيضا في اجهزة تلفاز. واحيانا يُصاب شخص ما برصاصة ضالة ويسقط في وسط الشارع الصغير الذي يفرغ سريعا. وتبقى جثته ملقاة في ذلك المكان في الشمس الحارقة ويتقدم قط فضولي فقط ويحاول أن يشم. وآنئذ يخرج الرجل الاول من شارع جانبي في حذر ويتردد لحظة ويقطع الزقاق سريعا ويختفي. ثم آخر ثم آخر وبعد ذلك بوقت قصير يمتليء الزقاق بالسابلة مرة اخرى في حين تبقى الجثة هناك وينتظر القناصون في صبر في مواقعهم في مآذن المساجد.
لم يعد السوريون يستعملون مصطلح ‘مناطق محررة’ إلا في شرق حلب وغربها. ولم يعودوا يُظهرون صور اولادهم وأقربائهم الذين قتلهم الموالون للنظام في هواتفهم الذكية بل صور حلب من الايام التي سبقت الحرب. لأنه لم يعد أحد هنا يحارب النظام، فمجموعات المتمردين يحارب بعضها بعضا. فاولئك الذين لا يشغلون أنفسهم بالنهب والابتزاز بالتهديد مشغولون بالـ آي.إس.آي.إس (وهي الحروف الاولى لـ ‘الدولة الاسلامية للعراق والشام’)، وهي مجموعة مقربة من القاعدة هدفها السيطرة على الدولة وانشاء نظام حكم جديد فيها. ‘أصبحنا أقل حرية مما كنا في الماضي’، يقول عبد اللطيف، وهو عضو جمعية ‘أركينوفا’ من المانيا وهي واحدة من الجمعيتين الاجنبيتين الوحيدتين اللتين تعملان في حلب. ‘في الماضي اذا كنت تريد الابتعاد عن السياسة لم يكن أحد يتدخل في قراراتك الخاصة. وهم الآن يمنعوننا من الاستماع للموسيقى، أو شرب الخمر أو تدخين السجائر’.
وهؤلاء هم مقاتلو ‘الشبيحة’ الجدد، وهذا في العربية صفة لـ ‘الأشباح’ الذين يشبهون اعضاء العصابة الخفية الذين رعبوا مواطني سوريا تحت حكم الاسد. وهم لا يحتاجون الى سلاح أو تهديد فيكفي أن يقفوا في الشارع مع لحية طويلة وجلباب يتفحصون المارة. والآن بدأ الحلبيونيتكلمون مرة اخرى همسا ويسيرون ورؤوسهم مطأطأة. في تموز الاخير أُعدم محمد قاطعة لأنه شتم النبي فقط. وكان في الخامسة عشرة من عمره.’ ما زالت توجد في المدينة القديمة وحدة من ‘جيش التحرير’ إنضممت إليها قبل سنة. وهم يجلسون في المفترقات نفسها وما زالوا يحاولون إبعاد القناص نفسه. والمهمة صعبة. وتنتقل بنادق الكلاشينكوف من يد الى اخرى احيانا دفعا عن علاج الجرحى. وبقي حي صلاح الدين هو ايضا كما كان. فالبيوت التي ضربتها نيران المدافع تقوم خالية. ويمكن أن تجد في بعضها مصباحا يتأرجح من الريح أو ستارا هي بقايا حياة طبيعية. وفي الركن يجثم قط فوق كر سي. كان يمكن أن تظنه في الايام العادية غافيا، لكنه الآن ميت.
حينما انضممت الى القوات المقاتلة كنا نتقدم مترا بعد متر، وننجح في تحسين المواقع بعد خمس كتل مبانٍ وحينها كانت تنفد الذخيرة ونعود الى نقطة البدء وقد قلّ عددنا بسبعة محاربين. يصعب أن تفهم جَلَدَ المسلمين وصورة تحصنهم في مواقعهم اذا لم تفهم إصرار العالم على البقاء في هذا الجانب من الخط الاحمر، وهو المكان الذي تُقتل فيه لا بالغاز بل بكل وسيلة اخرى ولا يهم أحد ذلك.

حياة بين الأنقاض

يوجد مليونا لاجيء وخمسة ملايين مقتلع هم ثلث مجموع عدد السكان. لكن لا وسيلة لمساعدتهم لأن منظمات المساعدة التابعة للامم المتحدة تعمل فقط عن طريق حكومات معترف بها، أي ادارة الاسد. وقد أجازت هذه الادارة المساعدة في الحقيقة لكنها فرضت الكثير جدا من القيود على التنقل بحيث تخصص أكثر المساعدة في نهاية المطاف للمناطق التي تسيطر عليها الادارة.
إن الزعم الرسمي هو أن القيود ترمي الى الحفاظ على أمن النشطاء الانسانيين برغم ان الادارة لا تحجم عن اعتقال وتعذيب اولئك الذين تجرأوا على محاولة الوصول الى المناطق التي يسيطر عليها المتمردون. وما زال عدد من جمعيات المساعدة الاجنبية ينتظر في تركيا وأناسها مشغولون بتقدير الأخطار على الارض، وبكتابة تقارير اخرى. إن عددا صغيرا من الجمعيات المحلية في حلب مستعد للدخول الى قلب المشهد. ‘لكن لا أحد يتصل بنا، وحينما حاولنا أن نُجند بدائل عن حليب الأم، وهي من أكثر المنتوجات التي تعظم الحاجة اليها، قيل لنا إن حليب الأم أفضل من مساحيق الحليب وعرضوا علينا أن نفتتح دورات ارشاد للنساء’، يقول محمد، وقد أصبح اليوم ذا لحية وهو يعمل في منظمة زكاة لها صلة بالقاعدة.
يمكن أن ترى احيانا في حلب شجيرة أو زهرة أو شيئا من لون بين الغبار والأنقاض. ويوجد عدد من الاشجار التي غُرست. وترى من حين لآخر نقطة كهرباء حينما تلمسها يُضاء نور أو حنفية يجري الماء منها. وهذه اشياء قد نُسيت تقريبا. وترى حافلة إعتدت أن تفكر فيها كما تفكر بقشرة محروقة يمكن الاختباء خلفها حينما يُمطر الرصاص المكان، بيد أن الحافلة خضراء هذه المرة وهي تسير. وتوجد مئات الأسماء ومئات الحروف الاولى، وفي كل ركن في المدينة فيلق اسلامية خاصة به مستعدة لأن تحصل لك على شيء من الخبز أو السكر. وقد بدأوا نشاطهم في كانون الثاني حينما بدأت التباشير الاولى للقانون والنظام تعود الى المدينة التي كفوا فيها عن سلبك كل ممتلكاتك ومنها الحذاء الذي أبقيته بالقرب من باب البيت. ونحن نُصر على أن نسمي هذا ‘جيش التحرير’، لكن الحديث عن جماعات عارضة دون أية سلسلة قيادة ويمكن تسمية كثير منها ‘عصابات مسلحة’. واعضاؤها يبيعون السكان المساعدة الانسانية التي حصلوا عليها بالمجان. وهم يُفرغون حوانيت ومخازن ويبيعون أصحابها ما فيها. وليست المسألة أن لكل واحد هنا سلاحا، بيد أن السلاح عند كثيرين منهم هو الشيء الوحيد الذي يملكونه. وهم جميعا أيتام حلب، وهم فتيان بين الثالثة عشرة والخامسة عشرة يتجولون في الشوارع مع قمصان قصيرة الكمين وبنادق كلاشينكوف، وجوارب مع صور بارك سمبسون تحت نعل عسكرية، وهم يجمعون النهب الذي خلفته العاصفة. فهؤلاء هم أسياد حلب الجدد وهم اولاد لم يكادوا يُنهون المدارس ولم يكادوا يجدون عملا لكن معهم بنادق كلاشينكوف وهم الآن جربوا القوة ويرفضون العودة ليكونوا بلا قيمة وأهمية كما كانوا تحت حكم الاسد.
إن حلب قد مسها الجوع وهي مستنزفة. فما زال الناس يعيشون بين الأنقاض في حين تقع الصواريخ على رؤوسهم.
‘في حي ارض الحمرا قُتل 117 انسانا. واولئك الذين بقوا أحياءا يظهرون من بين غرف الأدراج المدمرة والسقوف الساقطة. وهم يمرون واحدا بعد آخر على أرصفة منتقضة، بين أعمدة مُقطعة بازاء بساط معلق على حد مروحة. والشيء الوحيد الذي يملكونه الملابس التي على جلودهم. ولفؤاد زيتون ابن السادسة والثلاثين هاتف نوكيا ايضا وفيه صورة رأس موضوع على رف هو رأس إبنته.
 
‘أرز ودود

لا يمكن أن تفهم قوة الاسلاميين حتى تستمع الى إمام دمشق الذي يظهر في شبكة ‘الجزيرة’ ويطلب الى السوريين أن يطبخوا قطط الشوارع. إن الحرب قد أصبحت واقعا طبيعيا جدا بحيث إنه حينما يُسمع صفير قذيفة لا يُدير الاولاد حتى رؤوسهم. وحينما تُسمع رشقة بندقية كلاشينكوف يكون جدل بينهم فيقول احمد ابن السادسة: ‘هذا دوشكا’ فيزعم عمر وعمره مثل عمره قائلا: ‘لا، هذا كلاشينكوف. هل تسمع؟ هذه ضجة أخف من ضجة دراغنوف’.
يمر خط الجبهة الرمزي والحقيقي ببستان القصر الذي كان في نيسان 2011 مركز مظاهرات، والمكان الذي بدأ فيه كل شيء. وتمر هناك اليوم ايضا مسيرة احتجاج لكنها مؤلفة من الاولاد فقط، فالباقون جميعا غادروا أو ماتوا. أما اولئك الذين لم يغادروا أو لم يموتوا فقد فُقدوا ببساطة مثل أبو مريم الذي كان واحدا من أبرز النشطاء. فهذا الرجل الذي كان يخضع لتعقب النظام ولتعقب المتمردين بعد ذلك اعتقله الـ أي.إس.أي.إس آخر الامر واختفى. وينظم مسيرة الاحتجاج إبن أخيه ابن العاشرة. بل إنهم لا يملكون وقودا. والسيارة التي وضعت مكبرات الصوت عليها يدفعها المتظاهرون.
إن اولئك الذين لم يختفوا يعيشون في مخيمات المقتلعين المجاورة للمدينة يحميهم النهر. وضفتا النهر ممتلئتان بأفضية سكنية، وليست هي أكواخا ولا كهوفا بل هي أفضية لا يمكن تعريفها. تقوم على ألواح معدنية وألواح خشبية وبقايا بلاستيك، فثم أكوام فوق أكوام من الاشياء. ويتبين لك فجأة أنك موجود في داخلها حقا بين النساء والاولاد والشيوخ والعجزة والبُكم.
يستلقي ولد مختل العقل على الارض، ووضعت وجبته من الأرز فوق قطعة من الكرتون الى جانب الدود الذي جاء للزيارة. وتُحرك الأباجور وترى رجلا يحتضر بسبب سرطان الدم. وتُحرك أباجورا آخر وترى انسانا يجلس وفمه بلا أسنان وجلده مليء بالندوب والجروح وهو يقشط جلد جُرذ بائس الحظ. وتعود الى حلب مرة بعد اخرى ولا ترى أن شيئا تغير بين المقتلعين هناك سوى الأسماء.
تعيش ابتسام رمضان ابنة الخامسة والعشرين هنا مع ثلاثة اولاد في قبو عفن لنظام الصرف الصحي. وتجرأت في يوم ما على الخروج من المخبأ مع ابنها الصغير للبحث عن خبز فوجدت بدل ذلك قناصا. ومات الولدان الآخران جوعا، فقد كان من الخطير جدا محاولة تخليصهما، وفي النهاية وجدتهما قذيفة راجمة قتلتهما. إن حلب مملوءة قبورا وشواهد قبور حتى في الهواء، وذلك نصب ضخم يُذكر بالمواطن المجهول.
على مبعدة بضعة أمتار من هناك يجري النهر الذي هو الحد بين شرق المدينة وغربها. وهو يجري ويستوعب في تياره بقايا الجثث المهشمة للرجال الذين أُعدموا برصاصة في الرأس من الخلف وأيديهم مقيدة من وراء ظهورهم. ولا يتضح من هؤلاء: هل هم متمردون أعدمهم موالو النظام، أم موالون للاسد أعدمهم المتمردون؟ فالأمر يتعلق بوجهة نظر الناظر. أو ربما يتعلق فقط بتيارات النهر.