الرئيسة \  واحة اللقاء  \  "حلبٌ قصدنا "

"حلبٌ قصدنا "

01.05.2016
سوسن جميل حسن


العربي الجديد
السبت 30-4-2016
حلب الضاربة في التاريخ، منتهى طريق الحرير وعاصمة سورية الاقتصادية، تُنتهك وتسفح دماء أبنائها، وتقطع شرايين نسغها، وتدمّر أركان بنيانها الممتد بين الماضي والمستقبل. حلب التي نهضت من كبواتها، ومما حيك لها عبر التاريخ، أكثره الحديث، مرات عديدة، بأي وجهٍ ستلاقي العيد الذي تستحقه بجدارة، عيد العمال؟ هل بسؤال مضمر معجون بالحسرة والأسى: عيد بأية حال عدت يا عيد؟ أم ستستعيد صرخة المتنبي: كُلَّما رَحَّبَت بِنا الرَوضُ قُلنا/ حَلَبٌ قَصدُنا وَأَنت السَبيلُ؟
تحولت تجارتها إلى البحر، عندما تم افتتاح قناة السويس عام 1869، وبدأت حلب بالتراجع بشكل بطيء، لكنها نهضت، لتعيد ترميم نفسها، وتفتح لها أبواباً أخرى على المستقبل. وعندما سلخت عن حلب أجزاؤها الشمالية، وضُمت إلى تركيا عام 1920، بالاتفاق بين أتاتورك وسلطات الانتداب الفرنسي، خسرت حلب التجارة مع مدن هذه الأقاليم، خصوصاً المدن التي كانت تابعة لولاية حلب تاريخياً، كعنتاب ومرعش وأضنة ومرسين، فنهضت مرة أخرى. ومثلما أدت اتفاقية سايكس بيكو، وفصل العراق عن سورية، إلى كساد وتدهور كبير في اقتصادها، وكذا خسرانها السكك الحديدية المهمة التي كانت تصلها بالموصل. لكن حلب تنهض، لأنها لا تعيش إلاّ بنشاطها وشموخها. وجاء سلخ لواء اسكندرون عن جسد سورية، لتفقد معه حلب إمكانية وصولها إلى البحر، عن طريق منفذها الرئيسي على البحر المتوسط، ونهضت حلب، لأنها قلب نابض بالحياة. وعلى الرغم من كل هذه الضربات الموجعة، لم تعطب روح حلب، وبقيت العاصمة الاقتصادية لسورية، إلى أن وصلت، في السنوات الأخيرة، إلى وضعها الراهن، خلال ما كان يرنو إلى أن يكون ثورةً بكل ما تحمل الكلمة من معنى في سورية، ثورة واعدة بربيعٍ، تحولت إلى شتاء قاصف وزلزال يصدّع أرض سورية. تضرّرت حلب بشكل كبير إنسانياً واقتصادياً وعمرانياً وتراثياً بفعل القتال والقصف ونقل المعامل إلى تركيا، وتوقفت عجلة الاقتصاد في المدينة، وتعرّض كثير من معالمها الأثرية للدمار، مثل قلعة حلب وسوق المدينة وغيرها. واستبدل طريق يدل على سوريالية الواقع، بعد انقسامها إلى حلب، غربية وشرقية، اسمه طريق حلب/ حلب، استبدل بطريق الحرير.
لا يمكن أن تكون مدينةٌ بهذا النشاط الصناعي والتجاري العريق، من دون أن تضم العدد الأكبر من العمال والصنايعية والحرفيين والمنتجين. ومع هذا، كانت تعرف كيف توائم بين شرايينها ونبضها وبين وصاية قوانين وأنظمةٍ تعيق الازدهار والتطور، في ظل حكم شمولي قمعي، يعتبر الفساد من أهم أركانه. نظام يتبوّأ السلطة فيه حزب قائد للدولة والمجتمع، طرح شعاراً خلاباً: اليد المنتجة هي العليا في دولة البعث. ما أستطيع توثيقه بأمانةٍ وجسارةٍ هو أن الشعار رفع قبل الحركة التصحيحية المجيدة التي منّ بها الله على الشعب السوري عام 1970، وهرع رأسماليو سورية بمباركة من معظم رجال دينها إلى التهليل لها، فقد كانت في بيتنا في العام 1968، منفضة سجائر تخلبني بلونها البنفسجي اللامع، وأنا الطفلة التي لم تكن تجرؤ على السؤال، لتفهم ما معنى هذه العبارة المكتوبة بخط ذهبي زخرفي: اليد المنتجة هي العليا
"من حق حلب الجريحة اليوم على السوريين أن يكونوا أكثر رحمة بوطنهم" في دولة البعث، ومقابلها عبارة: دهانات أمية. منفضة كانت إحدى أدوات الدعاية والتسويق حينها. هذه اليد المنتجة تتعرّض اليوم إلى التفتيت، تحت قبضة أيادٍ عليا، تلعب فيما بينها لعبة كسر العظم، كل يد تعمل لصالح قوة أكبر، فالأرض مقسومة ومشرومة، والسماء محتلة من طائراتٍ مقاتلة، وأهل حلب يفرّون من موت إلى موت. باكراً في عمر الحراك السوري فرّ سكان حلب من الموت، إلى تركيا، ومنها من قارعوا الموت تهريباً في البحار، خلف حلم الوصول إلى أوروبا الوادعة. دمرت البنى التحتية في حلب، دمرت صناعتها، على الرغم من أنها كانت تعاند نتائج المعاهدة الحرة في التجارة التي أبرمها النظام مع تركيا، قبل الحراك بعدة سنوات، والتي لم تكن نتائجها صحية على مستثمري حلب وصناعها، فقد أغرقت الأسواق السورية بالبضائع التركية التي كان لدينا ما ينتج منها محلياً بجودةٍ أفضل، فحلب وحدها هي مركز التصنيع الأساسي في سورية، باحتوائها على أكثر من 50% من العمالة الصناعية، وأكثر من نصف حصة التصدير السوري.
 
يطلّ عيد العمال على سورية، اليوم، بعد أكثر من خمس سنوات على الحرب الطاحنة، والعمالة في سورية في أتعس أوضاعها، مثلما هي الحالة الاقتصادية، فسورية اليوم مقسّمة ومنتهكة، تسيطر عليها قوات تتداخل ويخترق بعضها بعضاً في أحيان كثيرة، ومعروف أن المواسم الاقتصادية الرئيسة في سورية من قمح وقطن ونفط هي تحت سيطرة تنظيم داعش من جهة، وتحت سيطرة القوات الكردية ذات الإدارة الذاتية الحالية من جهة أخرى. ومع ذلك، سوف تقوم الاحتفالات العامة، في هذه المناسبة الوطنية، وسوف يقول الخطباء فيها إننا نتطلع إلى تحقيق مزيد من التطور والتقدم، وصولاً إلى الحاضر والمستقبل الأفضل لعمالنا وجماهير شعبنا، وسيقولون أيضاً: "الاحتفال بهذا العيد يتزامن مع ظروف بالغة الدقة، يعيشها بلدنا تستهدف النيل من وحدته الوطنية، ونهجه الوطني والقومي، عبر مؤامرة دنيئة إجرامية، تقودها الدوائر الأميركية والصهيونية والغربية، بالتعاون مع أطراف وقوى إقليمية عربية، مدعمة بقنوات إعلامية".
لكن، حتى لو أن الشعب سئم وكفر بالشعارات على مدى العقود الماضية، فإن الواقع الراهن يدلّ على ما هو أكبر من مؤامرةٍ واحدة. يظهر الواقع أن العالم مجتمعاً يساهم في مأساة شعبنا، وحلب اليوم بؤرة الصراع، على أرضها تدور المعارك الشرسة لتوزيع الحصص، كل طرفٍ يريد ضمان مصالحه، ولا أحد يهتم بما يجري، وما هي الجرائم التي ترتكب. حلب خزّان الإبداع والصناعات القديمة والحديثة، تتعرّض لجرائم تاريخية غير مسبوقة، تتعرّض لطمس هويتها، تتعرّض إلى القضاء على حرفها ومصانعها ومعاملها، تتعرّض لسرقة دورها الريادي، تتعرّض إلى إرغامها على قبول اقتصاد الحرب، وتحكم أمرائه بها، أولئك الذين يجمعون الثروات بفحش يفوق التصور.
لكن، لحلب مع هذا سرّها الحي، لغزها وشيفرة ديمومتها، تودعه في ضمير أبنائها الموزعين في بقاع الدنيا، أينما ذهب الحلبي يحمل معه نهج الحياة الحلبية، روح المواطن الحلبي الذي لا يعرف لليأس مكاناً، الحلبي يؤمن بوطنه، ويعرف أن استمرارية الحياة يضمنه الإيمان بالعمل والوطن والحياة، وإيمانه أيضاً بالهوية الحضارية المتشكلة خلال الزمن. ها هي أجواء باريس تعطي، مثالاً، على ذلك، تعطرها رائحة صابون الغار الحلبي، بعد أن نقل الحلبيون معهم سرّ صناعتهم وسحرها، على أمل الرجوع يوماً إلى المصابن التي يتعتق فيها عطر الصابون المصنوع من الغار وزيت الزيتون الحلبي وعرق بشري نبيل.
من حق حلب الجريحة اليوم على السوريين أن يكونوا أكثر رحمة وحباً بوطنهم، من حقها على السوريين أن يتبعوا بوصلة سوريتهم، ويقابلوا بعضهم متحرّرين من أي تبعية وولاء، ليجلسوا ويتحاوروا فيما بينهم على تضميد جروح سورية، لا أن يكونوا مرتهنين لقوى إقليمية، تدفع بهم إلى أن يتفاوضوا على مستقبل بلدهم، كما يحلو لها ضماناً لمصالحها. لو يعرف كل سوري أن: "حلب قصدنا وهي السبيل. وهي رئة سورية الأساسية".