الرئيسة \  واحة اللقاء  \  حفظ الرواية السورية مقابل زيف الرواية الإسرائيلية

حفظ الرواية السورية مقابل زيف الرواية الإسرائيلية

31.05.2020
أيمن أبو جبل



مركز حرمون
السبت 30/5/2020
عُدّت رابطة الجامعيين في الجولان المحتل سابقًا المؤسسة الوحيدة التي عملت على أرشفة وتوثيق التاريخ السوري في الجولان المحتل، قبل انتهاء عملها التنظيمي والإداري والشعبي لأسباب تنظيمية ومالية واجتماعية وسياسة، واستكملت جمعية جولان لتنمية القرى العربية (التي حملت إرثها) مشروعَ الإعلام والتوثيق بعد سنوات من تأسيسها في بداية التسعينيات، ضمن برامجها التنموية والتطويرية والخدماتية، في مجال الثقافة والتربية والتعليم والسياحة والإعلام ودعم المرأة، ليكون بديلًا عن نهج “الأسرلة” الذي انتهجته المؤسسة الرسمية الإسرائيلية لتطويع وتذويب السكان السوريين في المنظومة الإسرائيلية. وعُدّ المشروع محاولة لحفظ وجمع الوثائق والتقارير والأخبار التي تخص الجولان، منذ إنشاء الدولة السورية الأولى في آذار/ مارس 1920، وما قبلها من مراحل تتعلق بالحياة الاجتماعية والجوانب التراثية للجولانيين، وما بعدها من مراحل اجتماعية وسياسية، مرورًا بالأزمات والنكبات والمآسي التي شهدتها ساحة الجولان، ضمن مساحته الجغرافية التي تقدر ب 1860 كلم2. وبرزت أهمية ذلك المشروع أكثر، في ظل غياب الأرشيف السوري، وسقوط أجزاء منه مع سقوط الجولان في حزيران/ يونيو 1967 في قبضة القوات الإسرائيلية، وانتقال تلك الأجزاء المهمة إلى رفوف الأرشيف العسكري الإسرائيلي، بعد نهب مدينة القنيطرة عاصمة الجولان، ومختلف القرى السورية التي كانت عامرة بأهلها وحضارتها وعمرانها المتواضع، قياسًا إلى تلك الحقبة من الحكم الوطني السوري الذي استمر 20 عامًا بعد الاستقلال الوطني لسورية. وتجلت أهميته أيضًا في كونه أحد مصادر المعلومات الوطنية المهمة، وأحد ركائز قاعدة البيانات المعلوماتية للباحثين والدارسين، فضلًا على كونه الذاكرة الوطنية لأي شعب، في مواجهة مشروع الأرشيف الصهيوني الذي يرتكز عمله على مقولة: “دولة بدون أرشيف هي دولة بلا تاريخ، ومن لا يملك التاريخ، لا يستطيع أن يمتلك المستقبل”. وبهذه الركيزة؛ يسعى مركز أبحاث الجولان وأرشيف الجولان التابع للمجلس الإقليمي للمستوطنات الإسرائيلية في الجولان المحتل، لسرقة تاريخ الجولان وتزييفه وتحريفيه، بهدف بناء هوية ثقافية يهودية في باطن الأرض السورية وسطحها، لشرعنة الاحتلال، والعودة إليه بعد “غياب دام حوالي 2000 عام”، بحسب الخطاب الترويجي والدعائي الإسرائيلي الذي تستخدمه المؤسسة الإسرائيلية الرسمية في مناهج التعليم التوراتي واليهودي المفروض على الطلبة العرب، وأمام السياح الأجانب الذين يتقاطرون من مختلف أنحاء العالم لزيارة “إسرائيل” والجولان المحتل، للاطلاع والاستمتاع بتجربة المشروع الاستيطاني الإسرائيلي، بعد زوال الخطر والتهديد العسكري السوري من الجولان الذي كان ثكنة عسكرية محصنة للجيش السوري، بتغيب متعمد وكامل لوجود أكثر من 153 ألف مواطن سوري، سكنوا أكثر من 400 قرية ومزرعة ومدينة في الجولان، قبل الاحتلال الإسرائيلي.
إن كتابة تاريخ الجولان السياسي مسألة حساسة، وستبقى ناقصة في ظل غياب المعلومة والوثيقة من الأرشيف الوطني السوري أولًا، وامتلاك الأرشيف الإسرائيلي لأجزاء مهمة منه، على الرغم من رفض الكشف عن العديد منه، بأمر من الرقابة العسكرية تتعلق بمجمل أحداث الجنوبية في سورية، وعلى الرغم من ذلك تبقى هناك تساؤلات كثيرة مشروعة، تتعلق بالجانب السوري، أمام كل باحث وكل مهتم في السياسة الشرق أوسطية، فرضتها حالة الطوارئ في العام 1963، كالكشف عن وثائق وخفايا الجاسوس الإسرائيلي في دمشق إيلي كوهين، والكشف عن وثائق اللقاء الذي تم في العام 1965 بين اللواء حافظ الأسد ونائبه في قيادة سلاح الجو ناجي جميل، والدكتور يوسف الصايغ (اغتيل عام 1980)مع اللورد تومسون وزير المستعمرات البريطاني، وما أُشيع عن اجتماعهم بأحد ضباط الارتباط الإسرائيليين في هذا اللقاء؛ والكشف عن الوثائق الرسمية السورية المتعلقة بالهزيمة وقرار الانسحاب العسكري رقم 66 قبل دخول القوات الإسرائيلية إلى الجولان؛ والوثائق الرسمية المتعلقة بالمهجرين والقرى السورية في الجولان، الذين طردتهم إسرائيل؟ ولماذا غُيبت قضيتهم وأحوالهم وأوضاعهم وتم إخفاؤها؟ وكيف تعاملت الحكومة السورية معهم، كضحايا أبرياء في هذه الحرب؟ وما هو مصير المفقودين السوريين المدنيين؟ وكيف تجاهلت الدولة السورية وجود المئات منهم داخل السجون الإسرائيلية، بعد محاولتهم العودة إلى بيوتهم وقراهم في الجولان المحتل؟ ولماذا تم تجاهل تدمير القرى السورية بين الأعوام 1967-1972، وتسويتها بالأرض، وتغييبها عن الوعي والإدراك الوطني والإعلامي السوري؟ ولماذا لم تظهر الرواية السورية الرسمية، لتفند الأكاذيب والروايات التي روجت لها إسرائيل في المحافل والمؤسسات الدولية، بكونها ضحية مسالمة، تعرضت لعدوان بربري وهمجي من قبل العرب؟!
أول دراسة توثيقية شاملة عن الجولان
بعد مضي أكثر من عشرين عامًا على وفاة الدكتور أديب باغ (1928 1964) ابن قرية الجوزة في الجولان في العام، تمت ترجمة أول دراسة توثيقية عن الجولان، وكان قد قدمها 1958 لنيل شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون الفرنسية، وهي دراسة وصفها أستاذه المشرف د. ج. دريش، بأنها تشكل “حلقة جديدة في سلسلة الأعمال الرائعة للجغرافيين السوريين الذين درسوا أقطار بلادهم وأقاليمها”. وهي بحد ذاتها وثيقة تاريخية نادرة تتناول الجولان، بشكل موضوعي وعلمي، بعيدًا عن الخطاب الاستهلاكي المشحون بالعاطفة والحماس الثوري والوطني الانفعالي. حيث تعدّ هذه الدراسة كنزًا وطنيًا وتاريخيًا ووثائقيًا، تتناول أدق التفاصيل الجغرافية والاجتماعية والطبيعية، والتنوع البشري الذي تميز به الجولان، وتشكل هذه الدراسة مرجعًا للعديد من الباحثين والمؤرخين والمهتمين بقضايا الجولان(1).
وإلى جانب هذه الدراسة، هناك العشرات من الكتب والوثائق والمقالات الوثائقية، التي أصدرها فيما بعد أساتذة وكتّاب وصحافيون وباحثون وناشطون سوريون، مع حفظ الألقاب والأوصاف، تناولوا الجولان من محاور عديدة ومختلفة، في الجوانب التاريخية والعشائرية والاجتماعية والسياحية والأثرية. وفي هذا الصدد، يُحسب للثورة السورية العظيمة في العام 2011 فضلها الكبير، كونها كسرت الطابو المخابراتي والأمني السوري، والخطاب الاستهلاكي في علاقة السوريين مع الجولان، كقضية وطنية، ساهمت في بناء وإقامة علاقات وطنية واجتماعية وسياسية وفكرية وإعلامية بين سوريي الجولان المحتل أنفسهم، كأبناء الأرض المحتلة وخارجها، وبين عامة السوريين، وفق أسس ومقومات أخلاقية وإنسانية. وما تشهده بعض مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الإعلامية، في السنوات الأخيرة، من تعاون وتنسيق وعمل وجهود مباركة، لاستعادة الجولان وإحيائه في الوعي والإدراك السوري والعربي والعالمي، والتفاعل والحماس في نقل المعلومات وأرشفة التاريخ الشفوي، من أحاديث وحكايات يرويها أبناء الجولان، خاصة كبار السن، الذين سكنوا الجولان قبل التهجير، ونقلها إلى الأبناء والأحفاد، ومشاركتها على الفضاء الإلكتروني بشكل واسع، يُثبت أن تاريخ الجولان، بالرغم من تهميشه وإغفاله وإسقاطه من الأجندات الوطنية للنظام السوري على مدار نصف قرن، ما زال حيًا في الذاكرة والوجدان، وأن هناك رغبة وحاجة شديدة في استرجاعه، ومنحه الغطاء الشعبي والإعلامي والقانوني والسياسي والوطني كأولوية وطنية سورية من الدرجة الأولى، بالرغم من الكارثة الوطنية التي يعيشها السوريون منذ تسع سنوات، بعد مواجهة الثورة بالحديد والنار والقمع والقتل والتهجير.
الوثائق الإسرائيلية تكشف جزءًا من الحقائق
خلال أكثر من نصف قرن، ظهرت مئات التحليلات السياسية والعسكرية، والاجتهادات ووجهات النظر، المؤيدة والمعارضة، من قبل العديد من المحللين والمفكرين والإعلامين والكتّاب، وكلٌّ يدافع عن موقفه وتصوراته بقوة وحماس، ويعتقد أنه يمتلك الحقيقة الكاملة، حول حقيقة ما حدث ويحدث، وبسبب انعدام وافتقاد الجانب الرسمي من الوثائق والمستندات، فإن كل ما ذُكر يبقى مجرد تحاليل وتصورات، تختلف من قربها أو بُعد صاحبها عن الموقف الحقيقي الذي يرغب صاحبه في إثباته.
من خلال الاطلاع على عمل مركز الأرشيف الإسرائيلي في مستوطنة “كتسرين” الإسرائيلية في الجولان المحتل، وأرشيف الجيش الإسرائيلي، وأرشيف الدولة الذي يعمل فيه طاقم إداري ومهني، والعديد من مراكز الأرشيف في المؤسسات العسكرية والمدنية والاستيطانية الإسرائيلية التي تتناول الجولان كقضية “إسرائيلية” أساسية بالنسبة إليهم، في الصراع العربي الإسرائيلي؛ فإن الباحث أو المهتم سيجد كثيرًا من الشهادات والوثائق والتقارير السرية والعلنية متوفرة أمامه، بعد إزاحة الستار عن سرّيتها، وقد يتفق الآخرون أو يعترضون على حقيقتها، إلا أنها تصور الأحداث من وجهة النظر الإسرائيلية التي تبناها واعتمدها المؤرخون الإسرائيليون، والخطاب الإسرائيلي الرسمي والشعبي، في تبرير وتعزيز احتلالهم وتوسعهم الاستيطاني والاقتصادي والسياسي في الجولان، وعلى الرغم من كشف الوثائق الإسرائيلية عن جرائم بشعة ارتكبتها إسرائيل في الجولان، من قتل وتدمير منظم وتهجير ممنهج طال أكثر من 98% من قرى وسكان الجولان، وإخلاء الجولان من سكانه، فإن “إسرائيل الرسمية” ما زالت تتمسك بقوة بروايتها، وتمثل دور الضحية في صراعها مع السوريين.
اعتراف بقتل المدنيين
في البروتوكول السري الذي يحتفظ فيه أرشيف الدولة (أرخيون همدينه)، سمحت الرقابة العسكرية الإسرائيلية أخيرًا في آذار/ مارس 2020 بنشر تقرير لقائد المنطقة الشمالية في الجيش الإسرائيلي، دافيد إلعازار، أمام لجنة الخارجية والأمن في الكنيست الإسرائيلي، بعد حذف عشرات الصفحات منه، لدواع أمنية وسياسية تتعلق “بتنظيف هضبة الجولان من سكانها”. هذه اللجنة التي تُعدّ من أهمّ اللجان التابعة للكنيست الإسرائيلي ما تزال أكبر تخوفاتها أن يتم تسريب محاضر جلساتها أو قراراتها وتوصياتها، لكون المواضيع التي تعالجها في غاية الأهمية والسريّة.
وجاء في مقدمة التقرير المؤرخ في التاسع عشر من كانون الثاني/ يناير 1968: “بعد سبعة أشهر من احتلال إسرائيل للجولان السوري، بدأت إسرائيل، تضع الأدوات والوسائل والبرامج لكيفية التعامل مع الواقع الجديد، وكيفية احتفاظها بالأرض الجديدة، والتعرف إلى تفاصيل الطبيعة والحياة والأوضاع، في هذا الجزء الغني بالجمال والمياه والمناظر الطبيعية، وسلسلة التلال والجبال والوديان والينابيع التي وقعت تحت أيادينا، خلال أقل من 31 ساعة، بدون دفع أثمان عالية. وحدات الجيش الإسرائيلي التي أخذت مواقعها ومهامها الجديدة بدأت تتعرف إلى الأوضاع الجديدة التي لم تعهدها من قبل: حدود هادئة جدًا، أقلية سكانية خائفة وقلقة ومرعوبة، نمو وانتشار هائل لسهول وحقول من النباتات الخضراء والأشجار المثمرة المميزة، وعشرات المئات من الحيوانات التي تبحث عن أصحابها ومراعيها لتسد جوعها وظمأها، سيول وينابيع رائعة تتفجر، وثلوج كثيفة تسد الطرقات والشوارع بعد أول شتاء لم نعهد مثله من قبل، أوضاع جديدة تطلبت الكثير من الجهد والعمل السريع، لإيجاد حلول سريعة لها.. فهذه الأرض المنبسطة أصبحت ضمن الكنوز القومية لإسرائيل”.
وفي تقريره أمام اللجنة، يقول قائد المنطقة الشمالية: “إن قواتنا منعت عودة المئات من السكان السوريين إلى منازلهم في الجولان بعد الحرب، وقتلت العشرات منهم أثناء تسللهم وتجاوزهم لخط وقف إطلاق النار، الذي تم تحديده وترسيمه من الشمال في جبل الشيخ، وحتى الحمة في الجنوب. وتشرف عليه 2-3 وحدات عسكرية، لمنع تسلل السوريين، وعودتهم إلى بيوتهم”(2). وأضاف: “حتى الفترة الأخيرة، كنا نعتقل أعدادًا من المتسللين، ونطلق سراحهم ونرحّلهم إلى سورية، لكننا اليوم أصبحنا بحاجة إليهم كرهائن، لا نطلق سراحهم، نعتقلهم إداريًا، ونبقيهم في السجن من أجل مبادلتهم مع السوريين، لدينا جنديان مفقودان منذ سبعة أشهر، ونشك في أنهم بيد السوريين، وبيدنا 20-50 معتقلًا سوريًا تسللوا إلى بيوتهم، وتم القبض عليهم، أتمنى أن يساعد ذلك في استبدال السجناء السوريين لدينا بالجندين المفقودين، إذا ما اعترف السوريون بوجودهم لديهم”(3).
وحول موقف قوات الأمم المتحدة، يقول دافيد إلعازار: “مشكلتنا الحالية مع القوات الدولية المرابطة بيننا وبين السوريين، حيث إنها تعتبر إطلاقنا النار على المتسللين خرقًا لوقف إطلاق النار، ولكنها لا تعتبر تسلل أولئك خرقًا بحد ذاته، وقد طالبتنا بالسماح لهم بالعودة إلى منازلهم، والسماح لهم باستئناف حياتهم بشكل آمن وهادئ، متذرعة بأن اتفاقية وقف إطلاق النار لا تسري على المدنيين. لكننا تمسكنا بموقفنا. إن هؤلاء المتسللون هم جنود بثياب مدنية، يتسللون بهدف التخريب، لكنهم طبعًا لم يقتنعوا بذلك”.
وأكد التقرير أن “إسرائيل أوضحت للحكومة السورية أنها يجب أن تمنع المتسللين من اجتياز خط وقف إطلاق النار، حفاظًا على سلامتهم وأمنهم وحياتهم. وأنها سترد بالقوة على أي محاولة تسلل. على الرغم من أن الوقائع تشير إلى أنه لم يحصل أي عمل تخريبي لغاية الآن من قبل المتسللين، لأن السوريين يدركون أننا سنرد بقوة، وهم غير مستعدين بعدُ لاستيعاب واقع هزيمتهم في الحرب، لديهم جيش ضعيف أكثر مما كان عليه قبل الحرب. لا تتوفر له مقومات للصمود حتى الآن”، بحسب التقرير. وأضاف إلعازار أمام اللجنة: “أقول لكم سنمنع دخول وعودة المتسللين إلى قراهم.. هذه هي النقطة الأساسية التي نعمل عليها، نحن منعنا مئات محاولات التسلل، بالقتل أو الاعتقال”.
 اعتراف بتهجير وتدمير ممنهج في الجولان
ويستطرد إلعازار في حديثه أمام اللجنة: “هضبة الجولان تقريبًا خالية من السكان العرب، مراكز التجمعات السكانية هي في مجدل شمس وبقعاثا وعين قنة ومسعدة، وقرية صغيرة اسمها سحيتا، تقع على الحدود تمامًا، وفيها حوالي 200 نسمة، نعمل على إقناع السكان بالانتفال إلى مكان آخر بين القرى الأخرى، التي يوجد فيها حوالي 5800 نسمة كلّهم من الطائفة الدرزية، وهناك قرية تسمى الغجر، يسكنها 400 نسمة من الطائفة العلوية، سيبقون تحت مسؤولية الحكم العسكري حاليًا، حتى تتضح الصورة أكثر حول مستقبلهم. وإضافة إلى هؤلاء هناك تجمعات سكانية في قرى يسكنها الشركس، سننقلهم إلى الجانب الآخر من الحدود، نعمل على ذلك بهدوء وترو، وبشكل جيد، وفي القنيطرة التي كان عدد سكانها 30 ألف نسمة، بقي فيها حوالي 115 نسمة فقط. حيث نعمل على إيجاد حلول لانتقالهم خلف الحدود”.
بالمجمل، هناك 6400 نسمة، و500 من السكان غير الدروز بقوا في هضبة الجولان التي كانت تضم 101 قرية مسجلة رسميًا في سجلات الجيش، عدا مدينة القنيطرة. قسم من القرى دُمّر خلال الحرب، والقسم الآخر نستخدمه للتدريبات العسكرية، بعد شق الطرقات إليها، وقسم من القرى انهارت بيوتها بفعل الطقس والثلوج الأخيرة التي زادت سماكتها عن متر ونصف، نحن قمنا بتسوية معظم هذه البيوت بالأرض بالبلدوزرات العسكرية.
وبالنسبة إلى عدد السكان في هضبة الجولان، قال: “لم نجد في السجلات الرسمية السورية تفاصيل لمعرفة الحقيقة حول عدد السكان بالضبط، لكن تقديراتي أن العدد كان بين 70-90 ألف مواطن سكنوا الجولان قبل الحرب، هم اليوم لاجئون. قبل شهرين علمت أن 50 ألفًا منهم يسكنون في خيام بالقرب من دمشق، وحوالي 20 ألفًا موجودين على طول وادي الرقاد، يعيشون في ظروف سيئة داخل الخيام”.
إسرائيل الرسمية” تنفي مسؤوليتها عن التهجير والتدمير في الجولان
وفقًا للرواية الإسرائيلية الرسمية، فإن الجولان لم يكن مأهولًا بالسكان. وهناك 60 قرية فقط عمل سكانها في قطاع الخدمات العسكرية، وهؤلاء انسحبوا طواعية مع الجيش السوري، إضافة إلى الضباط والجنود وعوائلهم، حيث وصف وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان، لصحيفة (لايف) الأميركية، بالتفصيل الرواية الإسرائيلية حول اختفاء سكان الجولان، وقال: “عندما كان الجيش السوري منتشرًا بين السكان وبين القرى، انسحب، وانسحب السكان المدنيون معه، فجمعوا عائلاتهم وأولادهم ومواشيهم وبقرهم، وهربوا نحو الشرق، حيث خاف هؤلاء من بقائهم بين خطوط النار، وخافوا من سقوط القذائف والصواريخ عليهم، لقد كان الهجوم الإسرائيلي على طول جبهة الجولان من حدود الأردن حتى لبنان في عمق عشرين كم، وهذه المنطقة عدا القرى الدرزية كانت فارغة تمامًا”. إلا أن الوثائق الإسرائيلية التي يتم الكشف عنها تباعًا تناقض هذه الرواية، وتؤكد زيفها.
وفي عدد خاص من مجلة (حدث الأسبوع) الإسرائيلية عام 1968، وبمناسبة الذكرى السنوية الأولى لاحتلال الجولان، كتبت الصحفية روت بوندي، في تقرير لها: “قرى العرب على طول الطريق مهجورة، كل سكانها هربوا حتى إنه لم يتبق مخلوق واحد منهم، من شدة الخوف من المحتل القاسي، هربوا جميعًا قبل دخول هذا المحتل إلى الجولان، مشهد البيوت المهجورة يثير الاشمئزاز، الحزن والأسف يتغلغل داخلك وأنت تنظر إلى مشاهد هذه الصورة: أكواخ بائسة، وبيوت حديثة نسبيًا في قرية عين الزيوان الشركسية.. هؤلاء الأغبياء لماذا هربوا وتركوا منازلهم؟! وعلى الرغم من ذلك، هناك في داخلنا شعور من الارتياح لأن هذه المناطق فارغة من السكان، حيث لن نواجه مشاكل مع 70 ألف مواطن في الجولان، مع هروبهم وتركهم لبيوتهم. ومن جهة أخرى، هناك شعور من عدم الارتياح، حيث تشاهد أكواخًا بائسة مهجورة وبساتين تيبس، وأشجار تين بجانب بيت يغطي سقفه القرميد الأحمر الجميل، لا شك في أن هؤلاء الناس كانوا يحبون بيوتهم والمكان الذي عاشوا فيه”.
ضابط الاستخبارات العسكرية إيلي هلحمي قال حول تعامل السلطات الإسرائيلية مع الدروز والشركس: “إن من يقرأ المواد في أرشيف جيش الدفاع الإسرائيلي يستطيع أن يعرف أن الهدف كان تنفيذ الخطة الإسرائيلية، وبالتحديد مشروع يغال ألون، في إقامة دولة درزية في مناطق الجولان، من أجل أن تكون دولة تحمي حدود إسرائيل، وتكون فاصلًا مع سورية”. (أرشيف الدولة-2000)
في 9 حزيران/ يونيو 1967، يوم بدء الهجوم الإسرائيلي البري على الجولان، عُقدت في مكتب رئيس هيئة الأركان الإسرائيلي يتسحاق رابين جلسة مع وحدة تنفيذ العمليات في الجيش الإسرائيلي، قال فيها: “في الجولان لا يوجد اكتظاظ للسكان، لكن يجب أن يكون الجولان كله نظيفًا منهم”. أما رحبعام زئيفي (نائب رئيس وحدة العمليات) فقد اعترف بعد 20 عامًا، لصحيفة (يديعوت أحرونوت)، خلال دفاعه عن برنامج حزبه السياسي، بضرورة “طرد كل العرب من أرض إسرائيل” وقال: “الجيش الإسرائيلي لم يستلم الجولان خاليًا، لكن الجيش فعل ذلك”.
أهمية التوثيق والأرشيف
إن مهمة استعادة الذاكرة وحفظها ونشرها والكشف عن الخفايا والأسرار التي تحاول حكومة الاحتلال، والقيادة السورية من الأب للابن، إخفاءها والتستر عليها، تصبح ضرورية ليس بهدف المناكفات السياسية والحزبية، بقدر ما هي حاجة لتبقى الحقيقة ماثلة في أذهان الأجيال، ولأن المدارس والمؤسسات والمنهاج التعليمي الإسرائيلي في الجولان المحتل، والسوري كذلك، على مدار سنوات، لا تُدرّس التاريخ والجغرافية السياسية إلا من زاوية السلطة التي تحكم. وإن أرشفة التاريخ والأحداث، كما  رواها ويرويها شهودها الذين عاصروها، وجمع الوثائق والمستندات وشراءها وامتلاكها وإعادة إحيائها من مختلف المصادر الأجنبية والمحلية والوطنية والشخصية، تصبح ذات أهمية وطنية وأخلاقية كبرى، لتكون مرجعية للباحثين والأجيال، بالتزامن مع الثورة التكنولوجية والفضاء الإلكتروني، ولتتوفر للباحثين مجالات أوسع لتقديم أعمالهم، وللسياسيين للاستفادة من التجارب السابقة، وللفنانين والمخرجين والمثقفين لتقديم أعمال أقرب إلى الحقيقة والواقع الذي يحاكي شعبنا، صونًا وحفظًا لإرثه وماضيه وتاريخه.
هوامش
(1) عدنان محمد مصطفى قبرطاي “الباحث في تاريخ الجولان”، مدونة القنيطرة.
(2) “تؤكد الوثائق العسكرية للحاكمية العسكرية في الجولان أن عشرات الأشخاص الذين حاولوا العودة إلى منازلهم اعتُقلوا وقُدّموا إلى محكمة القنيطرة العسكرية، وقد صرّحوا أمام القضاء العسكري بأنهم عادوا إلى منازلهم، من أجل استرجاع ممتلكاتهم وأوراقهم وصورهم، وأن كل المعتقلين تم طردهم فيما بعد من الجولان. آخرون من السكان المدنيين الذين اعتُقلوا قالوا إنهم عادوا إلى منازلهم، لأنهم لا يعرفون إلى أين يذهبون، ولا يوجد مكان آخر لهم يقصدونه”.
(3) تبين لاحقًا أن الجنديين ماتوا بعد أن ضلوا الطريق في ثلوج جبل الشيخ، ووُجدت جثثهم بعد أشهر).
المصادر:
•              أرشيف الجيش الإسرائيلي
•              أرشيف الدولة
•              أرشيف المستوطنات الإسرائيلية
•              نعموش -الهضبة السورية- مدونة لبحث احتلال الجولان
•              جريدة هأرتس، ماذا حصل لـ 130 ألف سوري، شاي فوغمان، تموز/ يوليو 2010.