الرئيسة \  واحة اللقاء  \  حتى لا يتجمد البركان

حتى لا يتجمد البركان

17.01.2019
إيمان محمد


سوريا تي في
الاربعاء 16/1/2019
صقيع شتاءات الحصار ما زال عالقاً في ثنايا ملابسنا، نحاول عبثاً أن ننفض عن أنفسنا تلك الذكريات، ولعلنا نتعمد أحياناً أن تبقى في الذاكرة، فتجربة كهذه قد لا تتكرر أبداً، وهي تستحق أن تُحكى.
كاذب من يدّعي أن كل الشتاءات سواء، وإن كان يعيش في بيئة ثلجية في بلد أجنبي قد تصل فيه درجة الحرارة إلى -20، فهو لن يشعر أبداً بما يشعر به ساكن الخيام، حين يحاصر الثلج خيمته من كل ناحية، كما كان يحاصر النظام حيّنا وأرضنا، ويمنع عنها كل وسائل التدفئة من حطب أو مواد قابلة للاشتعال، فضلاً عن منع الطعام والشراب والدواء، كانت التدفئة ترفاً، وانعدام الكهرباء – نعمة- نحمد الله عليها ونحن ندس وجوهنا تحت اللحاف منذ السادسة مساء، لنجبر أنفسنا على النوم، لعلنا ننسى البرد، أو ننسى القصف والقذائف التي تنهال قرب نوافذنا بحمم تحرق ولا تدفئ بحال من الأحوال.
كنا نستيقظ الرابعة فجراً، نتأمل في الظلام الحالك حالنا، نراجع كل مبادئنا، نؤكد لأنفسنا في كل مرة أننا لم نخطئ لأننا لم نستسلم، كان خياراً صائباً، فنظام يقاتلنا بكل وسيلة لن تتسلل الرحمة إلى قلبه فجأة فيستعيد إنسانيته، بل سيزداد وحشية وعنفاً، ولو استطاع لأباد الشعب كله بالقصف أو بالكيماوي، ولكنه كان يحتاج شعباً ليبقى في مكانه سيداً ولو بالإكراه.
لم تكن النار فقط مجرد حاجة تستعمل للطهي أو للتدفئة، كانت مصدر أملٍ وإعلان صمود
كثيرة هي حِيــَلُ البقاء التي كنا نتبعها لتستمر بنا الحياة، لم تكن النار فقط مجرد حاجة تستعمل للطهي أو للتدفئة، كانت مصدر أملٍ وإعلان صمود، وحين كنا نواجه الموت الساعة تلو الأخرى، كنا نناضل أيضاً لنبقي نيراننا مشتعلة، ليتوفر طعام اليوم، في بيوت أودى القصف بنوافذها وبعض جدرانها، ليتسلل الصقيع من حيث لا ندري، ونبقى رغم ذلك أحياء في وجه من أرادوا لنا الموت ليبقوا.
ولذلك كنا نتفنن في أساليب إيجاد - نارٍ ما - ولو بإحراق جميع القطع البلاستيكية الموجودة في منازلنا، وليذهب تلوث البيئة إلى الجحيم، وكنا نفتش في خزائن ملابسنا عن ثياب نرغم أنفسنا للتخلي عنها، مهما كانت عزيزة، ثياب الحفلات لن تلزم، الثياب الصيفية القديمة، بعض الأحذية والحقائب كانت تمدنا بالدفء لساعات كونها مصنوعة من مواد قابلة للاحتراق مدة أطول.
المشهد الأكثر إيلاماً لي لم يكن في إحراق ذلك كله، ولا بتأهيل كثيرٍ من قطع أثاث البيت للإحراق، بل كانت أكوام من ألعاب أطفالي التي تحمل كل قطعة منها ذكرى جميلة، مخزنة بدفءٍ في ذاكرتي وذاكرتهم، كان الأمر أشبه بإعدام ميداني لكائنات حيّة، إعدام للحظات سعيدة نقلها كبيرهم لصغيرهم، مجموعات خشبية وأخرى محشوة وثالثة بلاستيكية، وهناك ما تمسكنا به جميعاً فرفضنا أن نتخلى عنه ولو متنا برداً وجوعاً، ذلك كان دلالة واضحة لي أن للأشياء أبعادا أهم من قيمتها التي تبدو عليها، وأن أمل استمرار الحياة طاغ على حالة الموت، فهناك حياة قادمة ستتاح لنا جميعاً، وفرصة لنعود فلنلعب بها معاً بشكل جماعي.
لم يكن أحد ممن عاشوا تجربة الحصار على قسوتها يدرك أن ما بعد التهجير قد يكون أقسى، فصور مخيمات الخارج على مأساويتها كانت تشي بإهمال ما، من كان يظن أنه سيدخل ضمن الزوبعة، وبأن العاصفة ستجتاحه وبأن صمت العالم عن مأساته سيكون أقسى من عواصف وظروف عصيبة تتوالى على الخيمة التي يعيش فيها إن كان من سكان المخيمات، أو أن سقف البيت شبه المهدم سيقع فوق رأسه ويرديه قتيلاً مع أولاده، لأنه لا يملك أن يتابع حياته في خيمة، ولا يملك نقوداً يرمم فيها السقف أو يدفع أجرة غرفة ما بسقف تقيه مرارة العيش في دائرة الخطر، وهو الذي لجأ إلى قرية أو مدينة بحثاً عن حياة.
العواصف التي تعبث اليوم بأقمشة الخيام، وبالخرق التي يسد بها النازحون في الشمال السوري بيوتهم التي سكنوها بلا نوافذ، المطر الذي يُغرق الأرضيات والفُرش، الأطراف التي تتجمد برداً، العجائز والأطفال والضعفاء الذين يحتاجون للمساندة، كلهم وُجدوا هنا لأنهم رفضوا البقاء في بيوتهم الدافئة تحت سقف النظام، هل كانت كلمة الحق في وجه بشار الأسد ضرورية إلى الحد الذي يدفع كل هؤلاء هذا الثمن؟
لعل الإجابة يملكها المعتقلون في سجون النظام، والذين يعيشون الظروف الأصعب والأقسى على الإطلاق، فهذه الطريق الشاقة الصعبة، وهذه التضحيات العظيمة والنبيلة لابد أن تتفجر صوتاً قوياً، وأن تتأطر رفضاً قاطعاً لكل الأساليب الوحشية المتبعة ضد الشعب، والتي أوصلته إلى هذه الحالة.
لابد من تآزر واستمرار لحالة المساندة والإغاثة ومتابعة أحوال الضعفاء فهذا واجب شرعي وإنساني، والواجب الأهم ألا نتنازل عن ثورتنا فكل لحظة ألم، وكل أنّة لضعيف يجب أن تصب في بركان يحرق الظلم بأشكاله وأنواعه.