الرئيسة \  واحة اللقاء  \  جبلة وطرطوس أولاً ؟

جبلة وطرطوس أولاً ؟

30.05.2016
عمر قدور


الحياة
الاحد 29/5/2016
التفجيرات التي ضربت مدينتي جبلة وطرطوس، يوم 24 أيار (مايو) الجاري، غلب عليها عنصر المفاجأة، واكتشاف أن مدينتين تُحسبان من أكثر مدن الساحل موالاةً غير محصنتين ضد الاستهداف. كما هو معلوم، حاول النظام إلصاق التهمة بتنظيم "أحرار الشام"، إلا أن تنفيذ العمليات السبع على نحو متزامن يحمل بصمات خليفة الزرقاوي، ولم يمضِ إلا قليل من الوقت قبل إعلان "داعش" مسؤوليته، لأن رسالة التفجيرات الحالية تكتمل بتبنيها وبإهانة النظام أمام جمهوره المفترض.
غالب الظن أن "داعش"، الذي بدأ في الأسبوع الأخير يتعرض لضغط عسكري في العراق وسورية، يريد القول إن خساراته الميدانية ستؤدي إلى انتشار إرهابه بدل حصره بسكان المناطق الخاضعة لسيطرته. لا يُستبعد أيضاً أن تكون العلاقة المركبة بين النظام والتنظيم قد وصلت إلى نهايتها، لا لرغبة النظام في بترها وإنما نتيجة الضغوط الدولية عليه، وبسبب كمّ الفضائح الذي نشرته الصحافة العالمية عن الصفقات المتبادلة بين الطرفين، بما فيها صفقات ميدانية كان الخاسر الأكبر فيها عناصر من قوات النظام ذاته.
أعقبت التفجيرات تساؤلات ذات طابع بوليسي عن كيفية دخول السيارات المفخخة والانتحاريين، على رغم وجود احتياطات أمنية مكثفة، تلك التساؤلات ربما تكون أهميتها مضاعفة لدى جمهور النظام المستهدف، والذي لم يتورع بعضه على صفحات التواصل الاجتماعي عن توجيه انتقادات حادة أو شتائم وصلت إلى أعلى مستويات النظام. تقصير النظام الفادح إزاء جمهوره، الذي تكشف عنه الانتقادات، ذو أهمية تعلو على تشكيك المعارضين المنطلق من فرضية تسهيل النظام دخول المتفجرات، أو حتى تدبير التفجيرات، فالأخير الذي لا يتورع عن أي فعل بغنى عن حدث ضخم جداً ينال من هيبته.
لكن انتقادات الموالين، والأثر النفسي المتمثل بفقدان الشعور بالأمان، لم تبلغ حد إعلان اليأس من سياسات النظام الأمنية جملة وتفصيلاً، أي أنها لم تتخطَّ البعد الإجرائي المباشر إلى البعد السياسي العام، ورؤية المشكلة في السياسة أولاً. ذلك ما فعله النظام أيضاً باتهامه تنظيم "أحرار الشام"، فهو حاول استثمار الحدث لخدمة سياسته الأمنية ووصمه بالإرهاب، ضمن المسعى القديم المتكرر إلى وصم جميع خصومه بذلك. بمعنى أن النظام لن يفكر أدنى تفكير في ما تسببه سياسته الأمنية من أذى لجمهوره، بل على العكس يرى أن لحظة قطاف النجاح حانت مع الموافقة الأميركية والروسية على بقائه كمقاول ضمن حملة مكافحة الإرهاب.
بخلاف اتهامات النظام، تبني "داعش" التفجيرات له أثر مزدوج، أوله النيل من هيبة النظام وآخره الارتياح إلى أن التنظيم مُحارَب دولياً، ومن المرجح انتهاء مغامرته في موعد قريب. عالمية التنظيم تجعل وجوده السوري شأناً ثانوياً، وتوحي بأن إرهابه موقت، ولو امتلك النظام سياسة مغايرة لركز على هذا الجانب لطمأنة جمهوره، غير أنه لا يريد مجرد الاقتراب من التمييز بين "داعش" و "النصرة" وسواهما من الفصائل، لئلا يُبنى على التمييز أي استحقاق سياسي.
منذ انطلاق الثورة، كانت الأجهزة الأمنية وشبيحتها يروجون الأقاويل عن السيارات المفخخة لبث الرعب بين الأهالي، الكذبة صارت واقعاً، فرضية استفادة النظام منه ليست أكيدة على المدى البعيد، لكن الثمن الباهظ شبه أكيد. مسار التطورات الميدانية الحالي، وتقدم قوات النظام وحلفائه في أكثر من جبهة، لن يكونا خيراً سوى لمصلحته من دون مصلحة مؤيديه الذين سيدفعون الثمن مراراً. مرة أخرى، "داعش" ليس الأكثر خطورة بسبب عالميته، الأخطر هم أولئك المقاتلون الذين فقدوا الأمل بإطاحة النظام أو بالخروج بتسوية مشرفة، والذين لن يتوانى قسم منهم عن القيام بأعمال إرهابية لا يستطيع النظام منعها، بل ثبت عالمياً أن المعالجة الأمنية لم تكن كافية لحل مشكلة الإرهاب.
بتعبير آخر، وجود مناطق واسعة خارجة عن سيطرة النظام، واستقرار حالة الاستنزاف السابقة بين الطرفين، أفضل لجمهور النظام من استعادة تلك المناطق وخسارة الأمن في مناطقهم. فإذا كان استهداف "داعش" أخيراً أدى إلى تفجيرات جبلة وطرطوس لن يمر سحق العديد من الفصائل الأخرى بلا ثمن، ولا يُستبعد أن يكون الثمن تنظيمات محلية أكثر تطرفاً تعتمد نهج الإرهاب بعد فشل أسلوب السيطرة الدائمة على المناطق. سيكون من الغباء الظن بقدرة قوات النظام ومخابراته على ضبط الحدود، أو ضبط الحركة بين المدن، أو كشف التقنيات الحديثة المستخدمة في التفخيخ، إلى ما هنالك من وسائل غير مكلفة لأصحابها لكنها كفيلة بإيقاع أذى كبير.
ما لا يُدفع في السياسة يُدفع ثمنه في الأمن، يحدث هذا دائماً مع انسداد الأفق، مؤشرات الانسداد في سورية تتفاقم، وقد تصل ذروتها مع فرض حل دولي غير عادل، ومع انعدام فرص منع هذا الحل خارجياً وداخلياً. حتى الآن تعمل الفصائل المقاتلة المحلية تحت هدف واضح يتلخص في تنحية الزمرة الحاكمة، وإذا أصبح هذا الهدف مستحيلاً بالوسائل العسكرية، بعد تجربة الوسائل السلمية، سيكون وارداً جداً الانتقال إلى مستوى لا تنفع معه الآلة العسكرية.
لقد تصرف النظام منذ البداية مستلهماً تجربة الثمانينات، حيث ارتكبت قواته مجزرة راح ضحيتها عشرات الآلاف في مدينة حماة، ومعلوم أنه استدعى القيادات الأمنية المتقاعدة للاستفادة من خبرتها السابقة في تلك المرحلة. معلوم أيضاً أن المواجهة العسكرية آنذاك من جانب الطليعة المقاتلة اتخذت شكل التفجيرات والاغتيالات الفردية، بخلاف التجربة العسكرية لفصائل المعارضة اليوم. ربما ينجح النظام في استعادة تجربة الثمانينات، بمعنى جر مسلحي المعارضة إلى العمل على غرار الثمانينات، لكن الظروف مختلفة جداً اليوم من حيث وفرة السلاح، ومن حيث اكتساب الخبرة في صناعة المتفجرات، بل إن بعض الخبرات متاح مجاناً على شبكة النت، وإذا أخذنا في الحسبان ما ارتكبه النظام من مجازر فإن تخيل السيناريو المقبل وحده سيكون مهولاً.
صحيح أن فوضى السلاح في كل الأحوال ستسبب العديد من الكوارث مستقبلاً، إلا أن غياب الحل المقبول يعني فقدان المواجهة المجتمعية العامة لها. حينها، قد ينجح النظام في تحصين منشآته الحساسة، تاركاً للتفجيرات استئناف المقتلة التي بدأها، ولو استهدفت في المقام الأول فائض الموالاة الذي لم يعد يحتاجه.