الرئيسة \  واحة اللقاء  \  ثورة 1925 في سوريا من الضفة الفرنسية 

ثورة 1925 في سوريا من الضفة الفرنسية 

29.04.2021
ثائر دوري



القدس العربي 
الاربعاء 28/4/2021 
تنصب التحليلات، في الأحداث الثورية الكبيرة على الشعب الذي قام بالثورة في محاولة للإجابة على سؤال مهم: ما الذي جعل هذا الشعب يغير عاداته، وينتقل من حياة يومية هادئة تمشي بنسق واحد، على ما فيها من صعوبات، إلى حياة مضطربة لا يمكن توقع مساراتها، ولا يمكن التنبؤ بنهايتها، ولا بالتكاليف المترتبة عليها؟ ويتفرغ للإجابة على هذا السؤال، حسب حجم الحدث، مئات وربما آلاف الكتّاب والباحثون لتشريح البنية التي أدت إلى هذه الفعل التغييري الهائل المسمى ثورة. يستمر هذا التدقيق وتشريح البنية، وفحص التفاصيل عشرات وربما مئات الأعوام، كما في حال الثورة الفرنسية. وكل ذلك لمعرفة جواب محدد لسؤال "لم انتفض المجتمع؟". تتم دراسة بنيته الاقتصادية والنفسية والاجتماعية والأحداث والتبدلات التي مرّ بها المجتمع المنتفض مع التدقيق في التفاصيل كافة مهما صغرت وقل شأنها. بينما من النادر أن يتم الالتفات إلى الطرف الآخر، الطرف المسيطر الذي قامت عليه الثورة. وغالباً يتم تصويره ككتلة مصمتة أو جدار اسمنتي صلب، بلون واحد، بتركيبة واحدة، لا تمايزات، لا اختلافات. وقد تمر سنوات حتى تظهر دراسة عن بنيته وعن دور تناقضاته في إشعال الثورة. وهذه نقيصة كبيرة في الدراسات التاريخية، لأن الثورة كالتصفيق لا تتم بيد واحدة. 
الكتاب الذي بين أيدينا "حقائق ووثائق لم تنشر بعد عن الثورة السورية الكبرى 1925" من النوع الأخير الذي يشرح بنية الطرف الثاني، بنية الانتداب الفرنسي على سوريا، التي أدت إلى اندلاع ثورة 1925. واضع الكتاب هو أحد مرافقي المندوب السامي الفرنسي "ساراي" الذي وصل إلى سوريا عشية ثورة 1925 ( 23 كانون الأول/ديسمبر 1924 – 14 تشرين الثاني/نوفمبر 1925) وهو الذي أمر بقصف دمشق. الهاجس المسيطر على سكرتير الجنرال، واضع هذا الكتاب، هو تبرئة الجنرال مما نسب إليه من أخطاء كارثية في معالجته الملف السوري قبل وأثناء الثورة. وخلال ذلك نتعرف على النقاط الأساسية التي تسببت باندلاع الثورة، فالبنية الداخلية للمحتل الفرنسي ليست متماسكة، إذ بعد أكثر من مئة سنة من ثورتها الجمهورية، كانت فرنسا ما زالت ممزقة بين العلمانية والكاثوليكية، بين الجمهورية والملكية، وكان لذلك انعكاسات خطيرة على سياسة الانتداب في لبنان وسوريا. 
انعطاف حاد في سياسة الانتداب 
بدأ الاضطراب منذ لحظة تكليف ساراي كمندوب سام إلى سوريا ولبنان خلفاً لسابقه ويغان، الذي استلم مهمته من غورو. إذ كانت التعليمات التي أخذها من رئيس الوزراء "هربو" معاكسة لمسار السياسة الفرنسية في المشرق "لم يهتم سلفاك غورو وويغان بتاتا بغير الأقليات المسيحية واللاتين فقط، وقد حان الوقت للجمهورية إذا ما أرادت اجتناب المفاجآت أن تفكر قليلاً في الأكثرية الإسلامية القاطنة في بلاد الانتداب". هذا التغيير، الذي جاء بتعليمات حكومية، سبب اضطراباً هائلاً في صف مناصري الانتداب في المشرق، خاصة الكاثوليك، فاعتبروه يرقى إلى مرتبة الخيانة من قبل فرنسا، لأن الانتداب كان يمشي في مسار كاثوليكي" ما دعا الجنرال غورو إلى ترديد ذكر الصليبيين والقديس لويس ـ أولم يجئ الجنرال ويغان نفسه للبطريرك الماروني بهذه العبارة، التي أولها المسلمون تأويلاً سيئاً وهي: إن مهمتي لم تبدأ إلا منذ منحني غبطتكم البركة". كما أن رئيس الوزراء "هربو" طلب تخفيض الميزانية الضخمة التي فرضها التضخم الإداري الهائل، بسبب تقسيم سوريا إلى خمس دويلات، لكنه طلب من ساراي أن يقارب هذا الملف بحذر شديد وهذا اضطراب آخر. 
كان نتيجة التغيير في سياسة فرنسا أن أعلن اليسوعيون الحرب على سراي منذ وصوله في 2 كانون الثاني/يناير 1925 فجميع المدارس الكاثوليكية وقفت دقيقة صمت حزناً على تعيين العلماني سراي مندوباً ساميا. وبدأ وضع العصي في العجلات. يشكو سراي أنه وجد أدراج مكاتب المندوبية خالية حتى من الأوراق الرسمية اللازمة لعمله "إذ في الواقع وجدت شيئاً أحسن هو كتاب التعليم المسيحي المتروك هنا ولا ريب لأجل هدايتي". كانت سمعة سراي كجمهوري علماني قد سبقته قبل وصوله إلى بيروت. 
يدعوه الأب ريمي، المستفيد من العقود الاحتكارية التي وقعها مع المفوضية الفرنسية لطباعة منشوراتها بأسعار مبالغ فيها، في مطبعة استعارها أصلاً من المفوضية، يدعوه لقداس يقام لتكريمه ولم يكن هذا مدرجاً ضمن القداديس الرسمية، التي على المندوب السامي حضورها فيرفض سراي الحضور ويوكل موظفاً كبيرا كي ينوب عنه. يكتب سراي "لو قبلت الدعوة لكنت مضطراً للذهاب إلى معابد 29 طائفة لها رعاياها في هذه البلاد". لكن الطرف الآخر فسَر هذا الرفض، على أنه إهانة للكنيسة حتى أن الضجة وصلت إلى مجلس النواب الفرنسي المنقسم بدوره بين ملكيين كاثوليكيين وجمهوريين علمانيين مستعدين للشجار لأتفه الأسباب، وها قد عثروا على سبب.. حاول سراي إزالة سوء التفاهم ومحاولات إثارة الشقاق بينه وبين البطريرك حويك وإثبات أنه لا يعتزم محاربة الدين فكان يحضر القداديس الرسمية. ويرسم الكتاب صورة للبطريرك حويك المسن، الذي لا يملك من أمره شيئاً بل يسيطر عليه الأساقفة. 
إلقاء اللوم على الإنكليز 
هذه الفكرة تكاد تكون الفكرة الوحيدة التي يتفق عليها الفرنسيون من مختلف الاتجاهات، ملكية أم جمهورية، كاثوليكية أم علمانية. فهم يرون أن أمور انتدابهم في سوريا كانت على خير ما يرام، لولا نشاط الإنكليز في سوريا بشكل عام، وفي جبل الدروز بشكل خاص. ثم يعرض مؤلف الكتاب لمصاعب حاكم الجبل الفرنسي كاربييه، الذي اشتهر تاريخياً بغرابة الأطوار والقسوة، لكن لأنه من العلمانيين نرى إشادة به "فقد أنشأ المدارس وخطط الطرقات ونجح في مشاريع جمة تتعلق بجلب المياه وأهمها مياه السويداء" لكن مشكلته تكمن، حسب المنطق الاستعماري، بالسكان الجهلة القساة الذين لا يقدرون قيمة أفعاله، وهذه نظرة ثابتة لدى المستعمرين تجاه أهل البلد، فهم متخلفون بدائيون يرفضون الحضارة وإنجازاتها التي يحملها المحتل، ومن خلف هؤلاء المتوحشين تبرز صورة البريطاني الذي يمدهم بالمال والسلاح. وباختصار فإن وجهة النظر الفرنسية تقول، إن أي تمرد للسوريين له أحد ثلاثة أسباب، أو الأسباب الثلاثة مجتمعة وهي: جهلهم ووحشيتهم، البريطانيون، فرط تسامحنا معهم. 
أما الحقائق المتعلقة بسخط الناس من السياسات الفرنسية والصراعات الداخلية الفرنسية بين كارييه حاكم الجبل ورينو الذي حلّ مكانه مؤقتا، وسوء تدبير المفوضية للأوضاع، خاصة رفضها استقبال الوفد الدرزي الذي حضر إلى بيروت للمطالبة بانتخاب حاكم محلي للجبل، فهذه أمور لا أهمية لها في نظر الكاتب. لا يرى المسيطرون أي خطأ لهم إلا كونهم متسامحين "كان يجب قمع هذه الحركات باكراً، والفصل بين الثائرين وزعمائهم بإبعادهم عن الجبل". 
قصف دمشق 
نلمح هذه الغطرسة الاستعمارية واضحة في ما سماه الكاتب "قضية دمشق" في وصف ما جرى في دمشق أيام 18 ـ 19 – 20 تشرين الأول/أكتوبر 1925 حين اقتحم ثوار الجبل والغوطة أحياء دمشق المدينة وكادوا يأسرون المفوض السامي سراي، الذي أمر بقصف تدميري عشوائي على المدينة. يبرر الكاتب هذا القصف بأنه كان ضرورياً لتجنب الدخول في حرب شوارع مع العصاة، الذين يصفهم بالمجرمين والقتلة، ما يجعل الفرنسيين يخسرون الكثير من جنودهم. 
والخلاصة نعثر في هذا الكتاب على صورة لفرنسا الممزقة بصراعاتها الداخلية وبدسائسها التي لا تنتهي، مع استعداد أطراف الصراع لاستخدام كل الأسلحة المتاحة ضد بعضها، بما فيها تحريض السكان المحليين دون تقدير لعواقب الأمور وإمكان انفلاتها. وخلاصة الأمر ما يقوله مؤرخ الشام محمد كرد علي في مذكراته "سألني تاجر إنكليزي يقطن في الإسكندرية عن مجرى أمور الانتداب في الشام وذلك قبل انتهاء أيامه، فقلت إنه يتخبط على غير هدى. فقال: هل ترى الفرنسيين انتظمت أحوالهم في بلادهم؟ فقلت: اللهم لا. فقال إذا كان الأمر كذلك فكيف تريد ممن لا يحسن تنظيم بيته أن ينظم بيت غيره". 
يدعوني هذا الكتاب للتفكير بجواب على سؤال: كيف تندلع الثورات؟ وفي اجتهاد شخصي أجيب أن ثلاثة أرباع الأسباب هي خلافات وانشقاقات النخبة الحاكمة، سواء كانت خارجية أم داخلية، ووصول الصراع بين أطرافها حد استخدام كل الأسلحة حتى لو تطلب الأمر تحريض المجتمع من قبل طرف ضد خصمه، دون تقدير لعواقب الأمور. فالطرف الذي توهم إمكان استخدام المجتمع ضد خصمه سرعان ما يكتشف أن الأمور خرجت عن سيطرته، وأنه مثل صاحب المصباح الذي أخرج المارد ولم يعد قادراً على إعادته. الأمر الثاني الصادم أن أغلبية الجسم الثائر تكون من المحسوبين على النظام القائم أو يتلقون عطاياه وقد انفصلوا عنه لأسباب مختلفة منها المادية الصغيرة، ومنها الاستراتيجية الكبيرة، ونجد كما هائلاً من التنوعات والأسباب بين هذين القطبين. أما أمثال سلطان باشا الأطرش فهم قلة، وكأن وظيفتهم هي حفظ قبس من نار لإشعال السهل عندما يصير العشب جافاً. هم البوصلة التي تبقى تشير إلى الاتجاه الصحيح حتى لو جاء وقت لم يعد يتبعها أحد، لذلك نجد دائماً شكوى مرة من قبل المسيطرين ضد من قاموا عليهم "كانوا يأكلون على موائدنا".. "كانوا يتذللون لنا".. "كانوا يقفون على أبوابنا" إلخ. وأيضاً قد يقع ثوريون مزمنون لم يحنوا رأسهم ولم يقفوا على الأبواب أبداً ولم يأكلوا على موائد المسيطرين. قد يقعون في الخطأ نفسه، إنما بشكل مقلوب فنراهم يشنعون على الثوريين الجدد "عندما كنا في السجون أو المنافي كنتم ترفلون بنعيم السلطات" "عندما كنا نحرض ونقاتل كنتم تصفقون" وهكذا دواليك. 
معقدة وغامضة تلك التي يسمونها "ثورة" لا يمكن أن تحدها شطآن ولا أن تقيدها قيود، ولا أن تنظمها سدود وقنوات. لأنها تنبثق في النهاية من الحياة لا من الكتب والدراسات. 
كاتب سوري