الرئيسة \  واحة اللقاء  \  ثورات الكرامة ضد المحرومين منها

ثورات الكرامة ضد المحرومين منها

09.11.2019
بكر صدقي



القدس العربي
الخميس 7/11/2019
قال رأس النظام الكيماوي في دمشق، في مقابلته التلفزيونية الأخيرة، إنه لن يشعر بالفخر من مصافحة أحد من جماعة أردوغان أو الإيديولوجيا السياسية التي يمثلها. ولكن حين يتعلق الأمر بالمصالح الوطنية "علينا أن نترك مشاعرنا الشخصية جانباً" في إشارة إلى مواربة الباب أمام احتمال تطبيع العلاقات مع الحكومة التركية.
أما جبران باسيل، الذي تعرض لأكبر موجة شتائم علنية يمكن أن توجَّه لسياسي على الإطلاق، فهو ما زال يحجز لنفسه مقعداً وزارياً في الحكومة المقبلة المفترضة، بعدما قدم رئيس الحالية سعد الحريري استقالته، معتبراً تلك الشتائم، وفقاً لأحد التسريبات، مجرد كلام فارغ لعدد محدود من اللبنانيين.
وتمكن الممثل ـ المقاول المصري محمد علي، في ظهوراته اليوتيوبية من تحقيق شعبية كبيرة بهجومه الشخصي على عبد الفتاح السيسي الذي سبق لهاشتاغ "انتخبوا العرص!" الذي تشاركه ملايين المصريين أن رافق حملته الانتخابية الأولى لمنصب الرئاسة قبل سنوات، من غير أن تهتز له شعرة واحدة في رأسه.
وطرد المتظاهرون رئيس الهيئة العليا للمفاوضات (وهو جسم سوري معارض لنظام الأسد) نصر الحريري من إحدى تظاهرات المعارضين السوريين في اسطنبول قبل أشهر، في حين ملأت أقذع الشتائم والأوصاف المهينة، ضد مختلف السياسيين، صفحات التواصل الاجتماعي للسوريين واللبنانيين والمصريين والعراقيين والفلسطينيين. والقائمة تطول.
يميز كبير المشتومين ابن حافظ أسد، في المقابلة المشار إليها أعلاه، بين "المشاعر الشخصية" وما يسميها بـ"المصالح الوطنية" ليبدو كمن يقدم تضحية شخصية كبيرة على مذبح تلك المصالح التي لا اتفاق عاماً على كونها وطنية. ففي الواقع هي مصلحة شخصية أيضاً تتمثل في تمسكه المرضي بالسلطة. فشعار "الأسد أو لا أحد!" الذي رفعه أنصار النظام علناً منذ بداية الثورة السورية، يعني المطابقة بين إرادة فئة ضيقة من السوريين متمسكة ببقاء ابن حافظ على رأس النظام من جهة أولى، وتمسك الشخص المذكور بامتيازات موقعه السلطوي من جهة ثانية، مهما اتسعت رقعة رفضه في المجتمع. قد يكون سبب موقف الفئة المذكورة هو انعدام البدائل لديها في لحظة الخطر على النظام ككل، لكن من أسباب انعدام البدائل هذا تمسك بشار بالسلطة، إن لم يكن السبب الأهم. فقد كان من شأن تخليه عن السلطة أن يجعل النظام وأنصاره يبحثون عن بدائل أخرى، وأن يكافئه بحفظ كرامته الشخصية، على فرض وجود مشاعر مماثلة لديه.
 
هناك كثير من الدول فيها قوانين تجرّم الإساءة إلى شخص رئيس الدولة، باعتباره يمثل الأمة، وبعض الدول متسامحة أكثر مع حرية التعبير. أما في الأنظمة الدكتاتورية فأي نقد، مهما كان طفيفاً ورصيناً، يعامل معاملة الجريمة الكبيرة
 
لكن الشعار الآخر ذا الشعبية الكبيرة بين أنصار النظام "الأسد أو نحرق البلد!" أو صنوه "الأسد أو بلاها البلد!" يفضحان زيف المصالح الوطنية المزعومة التي تحدث عنها ابن حافظ. فبقاؤه في السلطة هو البوصلة الوحيدة التي يعمل بمقتضاها، ولا قيمة للبلد، عنده وعند أنصاره، بالقياس إلى مصلحته الشخصية (والعائلية) في البقاء على رأس السلطة.
على أي حال لم يأت تفلسف ابن حافظ بشأن العلاقة بين المشاعر الشخصية والمصالح الوطنية في سياق رد مفترض على معارضيه السوريين الذين لم يوفروا وصفاً جارحاً بحقه، طوال السنوات التسعة الماضية، إلا وقالوه علناً، بل كان ذلك في سياق العلاقة مع القيادة التركية! بحدود ما نعلم تكون العلاقات بين الدول سياسية، لا شخصية، قائمة على المصالح الوطنية المتبادلة أو المتعارضة، حيث لا مكان، أصلاً، لمشاعر شخصية. في حين أن العلاقة بين الحكام والمحكومين تحتمل مقداراً كبيراً من المشاعر الشخصية، وإن كان أساسها قائماً أيضاً على مصالح الطرفين. وفي الدول التي تستحق هذا الاسم يقدم السياسي استقالته من منصبه حين يواجه اتهامات لا يمكن فصلها عما يمس المشاعر الشخصية، كالفساد أو إساءة استخدام السلطة أو الإثراء غير المشروع أو التغطية على أعمال غير مشروعة أو الهزيمة في حرب وطنية أو الفشل في تحقيق المهمات المطلوبة منه. وبعض هذه الاتهامات يحاسب عليها القانون، في حين يخضع بعضها الآخر لمحاكمة الرأي العام وحده.
هناك كثير من الدول فيها قوانين تجرّم الإساءة إلى شخص رئيس الدولة، باعتباره يمثل الأمة، وبعض الدول متسامحة أكثر مع حرية التعبير تسمح بالسخرية منه. أما في الأنظمة الدكتاتورية فأي نقد، مهما كان طفيفاً ورصيناً، يعامل معاملة الجريمة الكبيرة التي يستحق مرتكبها أشد العقاب بما في ذلك الموت. لذلك فقد كانت الشتائم المقذعة والسخرية المهينة والإساءات لشخص الدكتاتور وحاشيته ظواهر لافتة في ثورات الشعوب العربية في العشرية الثانية للقرن الحالي. وقد تفوق اللبنانيون على نظرائهم في الدول العربية الأخرى بكم الشتائم التي وجهوها لشخصيات السلطة والإبداع في صياغتها.
وصفت هذه الثورات بأنها ثورات حرية وكرامة. وإذا كان مطلب الحرية بديهياً في دول تحكمها أنظمة دكتاتورية أو شمولية، فمطلب الكرامة يبدو، للوهلة الأولى، غريباً بعض الشيء. نتذكر مقطع الفيديو الشهير الذي يظهر فيه رجل سوري (محمد عبد الوهاب) يخاطب عناصر أمنية للنظام على أحد حواجز التفتيش قائلاً: "أنا إنسان، ماني حيوان، وكل هالناس متلي"! لقد عبر هذا الكلام عن مكنونات جميع السوريين الذين عاملهم النظام دائماً معاملة العبيد أو الحيوانات. وتكمن المفارقة في أن النظام المؤلف من أشخاص لا يعرفون معنى الكرامة البشرية ويفتقدون إليها، قد داسوا على كرامات المحكومين طوال عقود غلبتهم. وهي مفارقة مفهومة، فالحاكم المحروم من الكرامة يعمل على حرمان محكوميه منها لأنه لا يطيق رؤية من يتمتعون بهذه الخصلة البشرية.
لقد كسرت الثورات حاجز المحرمات، وعلى رأسها الإساءة للحاكم الذي كان مجرد وجوده في السلطة إهانة للأمة جميعاً.